موقع السراج

Alsiraj Banner Image

وصايا النبي صلى الله عليه و سلم
الثقة في رزق الله

عن حبة وسواء ابني خالد رضي الله عنه أنهما أتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يعمل عملا يبني بناء ، فلما فرغ دعانا فقال : (لا تنافسا في الرزق ما تهزهزت رءوسكما ، فإن الإنسان يلده أمه أحمر ليس عليه قشر ، ثم يعطيه الله ويرزقه)

أخي المسلم : في هذه " الوصية " يطمئن النبي صلي الله عليه وسلم الناس بأن الرزق يبد الله تعالى وحده فإذا أيقن الإنسان بذلك ، فرغ قلبه لعبادة ربه ، وأزاح عن كاهله كابوس هم الرزق ، وجعل الهموم هما واحدا ، هم واحدا ، هم مرضاة ربه . والآيات والأحاديث في هذا المعني كثيرة منها
قوله تعالى : (وفي السماء رزقكم وما توعدون J فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تتطقون)
قال الحسن رحمه الله تعالى في هذه الآية : بلغني أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه)
قال الله تعالى : (فورب السماء والأرض إنه لحق)
وقال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة فلطلع أعرابي جاف على قعود له متقلداً سيفه و بيده قوسه فدنا و سلم و قال : ممن الرجل ؟
قلت : من بني أصمع
قال : أنت الأصمعي ؟
قلت : نعم
قال : ومن أين أقبلت ؟
قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن
قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟
قلت : نعم
قال : فاتل على منه شيئا
فقرأت (والذاريات ذروا) إلى قوله (وفي السماء رزقكم وما توعدون)
فقال : يا أصمعي حسبك
ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها وقال : أعني على توزيعها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعها تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول :(وفي السماء رزقكم وما توعدون)
فمقت نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد فبينما أنا أطرف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم على وأخذ بيدي وقال : اتل على كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت : (والذاريات) حتى وصلت إلى قوله تعالى : (وفي السماء رزقكم وما توعدون)
فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال : وهل غير هذا ؟
قلت : نعم ، يقول الله تبارك وتعالى : (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)
قال : فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه

وقوله تعالى : (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) أخبر سبحانه وتعالى في هذه الآية برزق الجميع ، والدابة كل حيوان يدب والرزق حقيقة ما يتغذى به الحي ، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده قيل لحاتم الأصم : من أين تأكل ؟
فقال : من عند الله
فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء ؟
فقال : كأن ماله إلا السماء ! يا هذا الأرض له والسماء له ، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض وأنشد

ورازق هذا الخلق في العسر واليسر       وكيف أخاف الفقر والله رازقي
وللضب في البيداء والحوت في البحر       تكفل بالأرزاق للخلق كلهم

وذكر الترمذى الحكيم في " نوادر الأصول " بإسناده عن زيد بن أسلم : أن الأشعريين أبا موسى وأبا ومالك وأبا عامر في نفر منهم ، لما هاجروا وقدموا على رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك وقد أرملوا من الزاد ، فأرسلوا رجلا منهم إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأله ، فلما انتهى إلى الباب رسول الله صلي الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية : (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)
فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله
فرجع ولم يدخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال لأصحابه: أبشروا أتاكم الغوث ، ولا يظنون إلا أنه قد كلم رسول الله صلي الله عليه وسلم فوعده ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزا ولحما فأكلوا منها ما شاءوا ، ثم قال بعضهم لبعض : لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ليقضي به حاجته فقالوا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنا قد قضينا منه حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به
قال : ما أرسلت إليكم طعاما
فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم ، فسأله رسول الله عليه وسلم فأخبره ما صنع ، وما قال لهم
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ذلك شيء رزقكموه الله

قصة
روى أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابه جائحة فحزنوا لأجله فخرجت عليهم أعرابية فقالت : مالي أراكم قد نكستم رؤؤسكم ، وضاقت صدوركم ، هو ربنا والعالم بنا ، ورزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ! ثم أنشأت تقول

صما ململمة ملسا نواحيها       لو في صخرة في البحر راسية
حتى تؤدى إليها كل ما فيها       رزق لنفس براها الله لانفلقت
لسهل الله في المرقي مراقيها       أو كان بين طباق السبع مسلكها
إن لم تنله وإلا سوف يأتيها       حتى تنال الذي في اللوح خط لها

ومن الأحاديث : عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله لي الله عله وسلم : (يا أيها الناس اتقوا الله ، واجملوا في الطلب ، فإن لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)
وعن أبى الدراء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)
ورواه الطبراني بإسناد جيد إلا أنه قال : (إن ارزق ليطلب العبد أكثر مم يطلبه أجله) وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : لو فر أحدكم من رزقه أدركه كما يدركه الموت

مالا وأنت بالأموال موعود       فيا من طويت فسيح الأرض ملتمسا
وفي صخور الفيافي يرزق الدود       قد تحرم الأسد قسرا عن فريستها
يرجو الخلائق والخلاق موجود       لا شيء أعجب في الأنام من رجل

حكاية
قيل : إن حاتم الأصم رحمه الله قال لأولاده : إني أريد الحج فبكوا وقالوا إلى من تكلنا ؟
فقالت ابنته لهم : اسكتوا دعوه فليس هو برازق إن الله هو الرازق فباتوا جياعا وجعلوا يوبخون البنت فقالت : (اللهم لا تخجلي بينهم)
فمر أمير البلد وطلب ماء فناوله أهل حاتم كوزا جديدا فيه ماء بارد فشرب ، وقال : دار من هذه ؟
فقالوا : حاتم الأصم
فرمي فيها منطقة من ذهب وقال لأصحابه : من أحبني فعل مثلي فرمي من حوله كلهم مثله فجعلت بنت حاتم تبكي
فقالت لها أمها : ما يبكيك وقد وسع الله علينا ؟
فقالت : مخلوق نظر إلينا فاستغنينا أي : فما ظنك بالخالق جل وعلا الذي سخر لنا هذا المخلوق فعطفه علينا
قلت : وهذا مقام جليل من مقامات التوكيل والثقة في الله تعالى

قال عامر بن عبد قيس : أربع آيات في كتاب الله إذا ذكرتهن لا أبالى على ما أصبحت أو أمسيت
اولا: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده)
ثانيا: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو)
ثالثا: (سيجعل الله بعد عسر يسرا)
رابعا: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ومعنى حسبه : أي كافيه وهاديه
والنبي صلي الله عليه وسلم يقول : (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)
وعن أبى ذر رضي الله عنه قال : جعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يتلو هذه الآية : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا J ويرزقه من حيث لا يحتسب)
فجعل يرددها حتى نعست ، فقال : (يا أبا ذر لو أن الناس أخذوا بها لكفتهم)

يقين أطفال الصحابة
روى أن صحابيا رأى طفلا في المسجد يصلى بخشوع وإتقان فقال له بعد صلاته : ابن من أنت ؟
فقال : إني يتيم فقدت أبي وأمي
فقال : أترضي أن تكون لي ولدا ؟
فقال : هل تطعمني إذا جعت ؟
قال : نعم
قال: وهل تكسوني إذا عريت ؟
قال : نعم
قال : وهل تحييني إذا مت ؟
فدهش الصحابي وقال : هذا ليس إليه سبيل
فأشاح الصبي بوجهه وقال : إذن اتركني للذي خلقني ثم رزقني ثم يحييني
فقال الصحابي : لعمري من توكل على الله كفاه

الربط بين الأسباب والمسببات
وفي " الوصية " إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، فالرواية تقول : عن حبة وسواء ابني خالد ـ رضي الله عنهما ـ أنهما أتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يعمل عملا يبني بناء وهذا من الأسباب ثم تقول الرواية
فلما فرغ دعانا فقال : (لا تنافسا في الرزق ما تهزهزت رءوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يعطيه الله ويرزقه) وهذا من التوكل فدل على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكيل ، فإن تركها عجزا ينافي التوكيل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولابد مع هذا الاعتماد على مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ، ولا توكله عجزا) وقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه : (اعقلها وتوكل)
والتوكل : اعتماد القلب على الله في جلب المنافع مع الثقة بالله وفعل الأسباب

فلا مهرب مما قضاه وخطه       وكن بالذي قد خط باللوح راضيا
وقد يتعدى إن تعديت شرطه       وإن مع الرزق اشتراط التماسه
ولكنه أوحى إلى الطير لقطه       ولو شاء ألقي في فم الطير قوته

وقال الله تعالى : (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير لهذه الآية : أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئا إلا أن ييسره الله عليكم ، ولهذا قال تعالى : (وكلوا من رزقه) فالسعي في السبب لا ينافي التوكل وفي الحديث : (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخر المسير المسبب

ودعا النبي صلي الله عليه وسلم أتباعه إلى الأخذ بالأسباب وترك التواكل ، وحذر من المسألة

  • عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (لإن يأخذ أحدكم أحلبه فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فكيف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه)
  • وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (ما أكل أحد طعاما خيرا من أن بأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)
  • وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلي الله عليه وسلم فسأله فقال : " أما في بيتك شيء ؟
    قال: بلى . حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه من الماء
    قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ائتني بهما
    فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده ، وقال : من يشترى هذين ؟
    قال رجل : أنا آخذهما بدرهم
    قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : من يزيد على درهم " مرتين أو ثلاثا
    قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري ، وقال : (اشترى بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فأتني به)
    فأتاه به فشد فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم عودا بيده ، ثم قال له : (اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوما)
    ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (هذا خير لك من أن تجيء المسالة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ،أو لذي دم موجع) رواه أبو داود

عفاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلو همتهم
وهذا نموذج كريم ، عطر صفحات التاريخ بموقف خالد : قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : " لما قدمنا المدينة ، آخي رسول الله صلي الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال سعد بن الربيع : إني أكثر الأنصار مالا . فأقسم لك نصف مالي ، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها
فقال له عبد الرحمن : لا حاجة لي في ذلك ، هل من سوق فيه تجارة؟
قال : سوق قينقاع
فغدا إليه عبد الرحمن فأتي بأقط وسمن ثم تابع الغدو فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة فقال رسول اله صلي الله عليه وسلم : " تزوجت ؟ "
قال : نعم
قال : من ؟
قال : امرأة من الأنصار
قال : كم سقت؟
قال : زنه نواة من ذهب أو نواة من ذهب
فقال له النبي صلي الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة

هكذا كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم علموا أن من كرس حياته للحق والخير ، فعلمه عبادة ، وكل قطرة عرق تبذل فيه فهي آية جهاد ، توضع في موازين المرء مع صلاته وزكاته ، فالعمل هو وسيلة البقاء ، والوسيلة تتبع الغاية في رفها وخستها . مسك الختام روي عن على بن الموفق ـ رحمه الله ـ أنه قال : خرجت يوما لأؤذن فأصبت قرطاسا فأخذته ووضعته في كمي وأقمت الصلاة وصليت ، فلما قرأته فإذا فيه مكتوب :"بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك