موقع السراج

Alsiraj Banner Image

هل وجود نسخ لبعض آيات القرآن يناقض قوله تعالى: ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ))
سورة البروج الآيتان 21-22

نقاط هامة قبل مناقشة الناسخ و المنسوخ
أولاً: نقاط الإتفاق بين مؤيد و منكر وجود النسخ
المقصود بالنسخ قديماً
المقصود بالنسخ حديثاً
آراء علماء الدين و اللغة
الحكمه من وجود نسخ
ثانياً: نقاط الإختلاف و الرد عليها
تفسير الآية 106 من سورة البقرة           
هل هناك تعارض في سورة البقرة بين الآيتين 234 و 240           
هل هناك تعارض بين آية 180 في سورة البقرة و بين حديث النبي صلى الله عليه و سلم (لا وصية لوارث)           
هل نسخت الآية 5 في سورة التوبة كل آيات السلم في القرآن           
هل نسخت الآية 150 من سورة البقرة الآية 115 من نفس السورة           
هل نسخت الآية 2 من سورة النور الآية 15 من سورة لنساء           
ثالثا: الإستنتاج الأخير من مجمل البحث

مقدمة
قبل مناقشة قضية الناسخ و المنسوخ وجب علينا توضيح بعض النقاط و هي

  • لا يوجد إجماع على رأي واحد في قضية النسخ و هي محل خلاف شديد بين العلماء

  • العلماء الذين أيدوا النسخ لم يجمعوا على الآيات المنسوخة و هناك خلاف فيما بينهم في تحديد هذه الآيات

  • نحن نكن كل الإحترام و التبجيل لكل علمائنا الكرام و إن إختلفوا في الرأي و لا نشكك في نوايا أي منهم و إنما هي رؤى و تفسيرات مختلفة قد نتفق مع أي منهم أو نختلف و لكن الخلاف أبداً لن يفسد للود قضية

  • الإسلام دين قوي يتسم بالمرونة ومن ثم فهو يتقبل إختلاف الآراء فتعدد التفسيرات و الرؤى مقبول تماماً في الإسلام طالما أصحاب هذه الآراء من العلماء العدول أهل الثقة و العلم المشهود لهم بالتقوى و العلم من نظرائهم

  • النسخ كان موجوداً صراحة في الأمم السابقة فمثلاً في التوراة نُسخ حكم الزواج من الأخت (سفر التكوين 12:20) بحكم تحريمه (سفر اللاويين 9:18) كما في الإنجيل عن دخول إبن الزنا في جماعة الرب (سفر التثنية 2:23 ) و قد نُسخ في (سفر متى 5:1) و هو لم يُعد إنتقاصاً لهذه الكتب

  • للنسخ –لمن يقول بوجوده- شروطاً شديدة الصرامة وضعها العلماء ووضحوها وضوحاً بيّناً

  • هناك نقاط إتفاق كثيرة بين من أفتى بوجود النسخ و من رفض وجود النسخ و نزعم أن نقاط الإتفاق أكثر من نقاط الخلاف كما سنوضح فيما يلي

أولاً: نقاط الإتفاق
  • إتفق الطرفان أن الآيات التي يرى البعض أنها نُسخت تتعلق بالأحكام قفط و لا إحتمالية لوجود نسخ في الآيات التي تتعلق بالعقيدة و الإخبار عن الأمم السابقة

  • إتفق الطرفان على الرفض التام لوجود ما يُسمى بـ (البداء) و معناه أن نأتي بحكم ثم يأتي التطبيق العملي فيُثبت وجود قصور شديد في الحكم عن مواجهة القضية فيُعدّل الحكم وهو أمر رفض علماء المسلمين بالإجماع وجوده في القرآن الكريم

  • إتفق الطرفان أن هناك إختلاف في مفهوم النسخ بين الأقدمون و المفهوم المعاصر ولهذا يختلف عدد الآيات -التي يعتبرها بعض العلماء منسوخة- إختلافاً كبيراً حسب أي مفهوم تبناه العالم أثناء حكمه. و هذا ما يفسر لنا قبول بعض رجال الصحابة لفكرة النسخ لبعض الآيات لأن مفهومهم عن النسخ مختلف عن مفهوما الحالي للنسخ.

المقصود بالنسخ قديماً
:قديماً كان مفهوم النسخ متسع جداً فمن أمثلة ما يشمل
:تقييد المطلق
فمثلاً في سورة المائدة آية 6 يقول تعالى: ((|يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )) و في نفس الآية يقول تعالى: ((فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ)) فقد قيّد الله تعالى الأيدي في الوضوء فحدد أنها إلى المرافق و أطلقها في التيمم فلم يحدد مساحة معينة من اليد فكان العرب قديماً يسمون هذا نسخاً

:تخصيص العموم
ففي سورة البقرة آية 228 يقول تعالى: ((الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ)) فلفظ المطلقات عام يشمل كل مطلقة، لكن حكمه مخصوص بقوله تعالى في سورة الطلاق آية 4 حيث يقول تعالى: ((وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )). فكان العرب قديماً يسمون هذا أيضاً نسخاً

:تفسير المجمل
ففي سورة المائدة آية 1 قال تعالى: ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) و هو مجمل و تفسيره في قوله تعالى من نفس السورة آية 3 قال تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ))

:تدرج الحكم
كما إعتبروا تدرج الحكم أو تخفيفه أو إلغاؤه من النسخ لهذا تجد بعض العلماء يعتبرون الكثير من الآيات منسوخة إذا إندرجت تحت أي من الحالات السابقة

المقصود بالنسخ حديثاً
اما في العصر الحديث فمفهوم النسخ الآن هو: (إزالة الحكم و المجيء بحكم آخر يلغي الحكم السابق تماماً) فإذا طبقنا هذا المعنى نجد أن عدد الآيات التي يُحتمل أن تكون منسوخة قد أصبح قليل جداً لا يتجاوز ثماني آيات

أمثلة من آراء علماء الدين و اللغة في الفارق بين المعنى قديماً و حديثاً
يقول السخاوي (مؤرخ كبير وعالم حديث وتفسير وأدب) في كتابه (جمال القراء): (فإن قولنا: نسخٌ وتخصيصٌ واستثناءٌ؛ اصطلاحٌ وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يسمي ذلك نسخاً)
وقال: (وإنما وقع الغلط للمتأخرين من قبل عدم المعرفة بمراد المتقدمين، فإنهم كانوا يطلقون على الأحوال المتنقلة النسخ، والمتأخرون يريدون بالنسخ نزول النص ثانياً رافعاً لحكم النص الأول)

و يقول الإمام الفقيه القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) : (والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخاً توسعاً وتجوزاً)

ما الحكمه من وجود نسخ في القرآن (لمن يوافق على وجوده)

  1. مراعاه مصالح العباد: فأحياناً يكون الحكم موافقاً لصالح العباد في فترة زمنية معينة ثم مع تغير الظروف و تطور حياة الناس يتغير الحكم ليوافق ما إستجد من ظروف العباد

  2. تدرج التشريع: فمن رحمة الله تعالى بعباده جاءت بعض الأحكام متدرجة حتى لا تصعب على العباد و من أمثلة ذلك لتدرج في عقوبة الزنا و الذي كان شائعاً ومنتشراً في الجاهلية، وسعى الإسلام إلى اقتلاع هذه الرذيلة تدريجياً فجعل الله تعالى عقوبة الزنا أولاً الحبس في البيوت فقال تعالى: ((اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)) - سورة النساء 15 ولما تأهلت النفوس لتقبل العقوبة أنزل الله تعالى جلد الزاني غير المحصن (أي غير المتزوج) فقال تعالى: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)) - سورة النور آية 2، ثم نزل حكم الزاني المحصن (المتزوج) بالرجم

  3. الإبتلاء: فقد يتغير الحكم كنوع من الإختبار للعباد فمن ثبت فهو مؤمن حقاً و من تزعزع إيمانه فعليه مراجعة نفسه و أوضح مثال على ذلك مسألة تحول القبلة يقول تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) – سورة البقرة آية 144 فهذه القضية بالذات مثال حي أن القدسية ليست للحكم في حد ذاته و إنما القدسية تأتي من مصدر الأمر و هو الله تعالى

ثانياً: نقاط الإختلاف و الرد عليها

الخلافات بين من يقول بالنسخ و من ينكر النسخ تتركز في تفسير بعض الآيات التي تبدو كأنها تتعارض أو يبدو أن الحكم الديني قد تغير من آية لأخرى كأن آية الغت حكم الآية الأخرى بينما من يقول بعدم وجود النسخ يرى أن الآيات لا تتعارض و يوجد تفسير يسمح للتوفيق بين الآيات دون وجود نسخ. وسنقدم فيما يلي بعض الأمثلة من هذه الآيات كما سنورد رأي الطرفين في تفسير الآيات. و لكن قبل أن نبدأ لابد أن نوضح أن ما سنقدمه لاحقاً مجرد أمثلة لأشهر الآيات محل الخلاف بين من يقول بوجود النسخ و من ينكره و ليس على سبيل الحصر و سنترك لك الحكم عزيزي القاريء حرية الحكم لإختيار الرأي الذي تراه

الحالة الأولى: تفسير الآية 106 من سورة البقرة
قال تعالى: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
:و كمثال لهذا الإتجاه يقول الدكتور منصور كيالي ما نوجزه فيما يلي
  • يجب النظر إلى الآية التي تسبق الآية التي يقولون عنها أنّها (آية النسخ) الوحيدة، و السبب لأنّ آية النسخ تبدأ بحرف: (ما) (تعليق السراج: هي مـا الاستئنافية : و هي من حروف الاستئناف هو حرف يربط بين جملتين؛ لكي تحقق تماسك بين الجمل)

    ففي الآية السابقة مباشرة يقول تعالى: ((مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) – سورة البقرة 105

    لذلك (يجب) أخذ الآية السابقة، فالآية السابقة تتحدّث عن أهل الكتاب و المشركين الذين رفضوا نزول القرآن لأنّه يوجد توراة، فكان الجواب الإلهيّ : أنّ القرآن الكريم قد (نَسَـخَ و ألغى آياتِ التَوراة، مُستبدِلاً إيَّاها بِآياتٍ خيرٍ مِنْهَا في التَشريعِ و هي (القرآن الكريم)، أوْ مُحَافِظَاً عَلى بَعْضِ الأحْكامِ الواردة سابقاً في التَوراة، فلآيتان هُمـا : (( مَـا يَوَدُّ الـذينَ كَـفَروا مِـنْ أهْـلِ الـكِـتَابِ وَ لاَ الـمُـشْـرِكِـينَ أنْ يُنَزَّلَ عَـلَـيْـكُـمْ مِـنْ خَـيْرٍ مِـنْ رَبِّكُـمْ )) - البقرة 105

    فَأجَابَ القُرْآنُ : (( مَـا نَنْسَـخْ مِـنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِـهَـا نَأْت بِخَـيْرٍ مِـنْهَـا أوْ مِـثْلِـهَـا)) - البقرة 106، أي : مَـا نَنْسَـخُ و نُلْغي من آية من (الكُتُبِ السَماويَّةِ السَابِقَةِ)، أوْ نُنسـهـا مع الزمن السابق ، نَأت بخيرٍ مـنها مِن الأحكام الشرعيَّة الجديدة أو مِـثلـهـا في التشريع.

  • -في تفسير الآية (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) يقول تعالى: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) – سورة الأعراف آية 157

    فشريعة النبي صلى الله عليه و سلم كانت أفضل لأنها رفعت عنهم كثير من القيود التي كانت عليهم و في تفسير (أَوْ مِثْلِهَا) أنها الأحكام الموجودة في الشرائع السابقة و أبقاها الإسلام دون تغيير

و خلاصة ما يراه الدكتور كيالي أن المقصود من الآية الكريمة هو نسخ القرآن الكريم لما سبقه من الشرائع و أحكام في الإنجيل و التوراة و ليس المقصود نسخ آيات القرآن بعضها لبعض

تفسير سورة البقرة - الآية رقم 106 للشيخ الشعراوي

يعتبر تفسير هذه الآية هو الدليل الأول و الرئيسي على وجود النسخ و معناها أن الله تعالى ينسخ بعض الآيات التي أحتوت أحكام و يبدلها بحكم آخر. يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة ما نوجزه بما يلي
  • (ننسخ) معناها نزيل آية ونأتي بآية أخرى بدلا منها.

  • (ننسها) لها معان متعددة.. قد يعني ذلك أن الله يجعل الإنسان يسهو ويغفل عنها أو أنه سبحانه لا يبلغها للرسول والمؤمنين عن طريق الوحي مع أنها موجودة في علمه سبحانه

  • الرسل السابقين جاءوا في أزمانهم بخير ما وُجد في هذه الأزمان و الرسالات السابقة للإسلام جاءت لقوم محدّدين ولزمن محدّد ثم جاء نبي جديد لينسخ ما في الرسالة السابقة

  • هناك في رسالات السماء كلها أمور مشتركة لا فرق فيها بين رسول ورسول وهي قضية الإيمان بإله واحد أحد لكن الحياة في تطورها توجد فيها قضايا لم تكن موجودة ولا مواجهة في العصر الذي سبق فيما عدا الإسلام.. لأنه جاء ديناً خاتماً لا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة

  • (النسخ) غير (البداء) فالله سبحانه عندما حكم أولاً هو يعلم أن الحكم له زمن أو يطبق لفترة ثم بعد ذلك ينسخ أو يبدل بحكم آخر لأن هذا التعديل لمصلحة العباد. إذن فالمشرع الذي وضع الحكم وضع الحكم الأول كان يعلم أنه سينتهي وسيحل محله حكم جديد. وليس معنى ذلك أن الله سبحانه قد حكم بشيء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم (و هو معنى البداء) فهذا غير صحيح.

  • في تغيير القبلة مثال لأنه لم توجد أية ظروف أو تجد وقائع، أو تظهر أشياء كانت خفية تجعل الاتجاه إلى بيت المقدس صعباً أو محوطاً بالمشاكل أو غير ذلك، ولكن تغيير القبلة جاء هنا لأن الله سبحانه وتعالى شاء أن يتوجه المسلمون إلى بيت المقدس فترة ثم يتوجهوا إلى الكعبة إلى يوم القيامة. فالقدسية هنا لأمر الله تعالى و ليس مكان معين.

  • معني (خير منها) هل الآية المنسوخة كان هناك خير منها ولم ينزله الله؟ نقول لا المعنى أن الآية المنسوخة كانت خيراً في زمانها والحكم الثاني كان زيادة في الخير بعد فترة من الزمن كلاهما خير في زمانه وفي أحكامه.


الحالة الثانية: هل هناك تعارض في سورة البقرة بين الآيتين 234 و 240
يقول تعالى في سورة البقرة الآية 234 : ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ))

و يقول تعالى في نفس السورة آية 240 : ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
إنّ الآية الأولى تتحدّث عن [العـدّة للمرأة الأرملة]، بينمـا الثانية تتحدّث عن [النفقة]، و لا علاقة للموضوعين ببعضهمـا، و لا تنسخ أيةً آيةً أخرى من الآيتين الكريمتين
  1. مَوْضُوعُ العِدَّةِ : ((وَ الـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً يَتَـرَبَّصْـنَ بِأنْفُسِـهِـنَّ أَرْبَعَـةَ أَشْـهُـرٍ وَ عَـشْـراً فَإذا بَلَـغْـنَ أَجَـلَـهُـنَّ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ بِــالـمَـعْـروفِ )) - سورة البقرة 224. إنّ استخدام كلمة : ( يتربّصن ) يعني (العدّة للنساء)، و نلاحظ استَخْدام (حَرْفَ البَـاءِ) للجَرِّ فقال : (بـالمعـروف) ، للدَلاَلَةِ عَلى أَمْرٍ (واحِـد) مَعْروفٍ هُوَ : (الـزَواجُ فقط) ، وَ لِذَلِكَ جَاءَتْ كَلِمَةُ (الـمعْروف) مُعَرَّفَةٌ بِـ (أل) التعريف

  2. مَوْضُوعُ النَفَقَـةِ :((وَالـذينَ يُتَوَفَّـوْنَ مِـنْـكُـمْ وَ يَذَرونَ أَزْواجَـاً وَصِـيَّـةً لأزْواجِـهِـمْ مَـتَاعَـاً إلـى الـحَـوْلِ غَـيْرَ إخْـراجٍ فَإنْ خَـرَجْـنَ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ مِـنْ مَـعْـروفٍ)) – سورة البقرة 240
    إنّ استخدام كلمة (وَصِـيَّـة) تدلّ على الوصيَّةً المَـاليّةً، و استخدم : (غَـيْرَ إخْـراجٍ) كَيْ لاَ تَضْطَـرَّ المَرْأةُ للخُروجِ إلى العَمَـلِ، و نلاحظ استخدام حَرْفَ (مِن) للجَرِّ، للدَلاَلَةِ عَلى أُمُورٍ (كَثيرَةٍ) مُتَعارَفٌ عليها، كالعَمَلِ وَ الزَواجِ وَ غَيْرِهَا، وَ لِذَلِكَ جَاءَتْ كَلِمَةُ : (مَعْروف) نَكِـرَةٌ بدون (ال) التعريف

إن الآية الآية الأولى نسخت الآية الثانية، وإن كانت قبلها في المصحف. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد ((الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا)) فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها

فعدة المرأة التي توفي زوجهابإجماع العلماء هي أربعة أشهر و عشرة أيام

و يرى الشيخ الشعراوي تفسير آخر فيقول أننا أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجاً، حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً (و هي عدة المطلقة)، وحُكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل الزوجة في بيته حولاً كاملاً

و((غَـيْرَ إخْـراجٍ)) : أي لا يخرجها أحد

و قوله تعالى: ((فَإنْ خَـرَجْـنَ فَـلاَ جُـنَاحَ عَـلَـيْـكُـمْ فِيمَـا فَعَـلْـنَ فـي أَنْفُـسِـهِـنَّ مِـنْ مَـعْـروفٍ)) أي إن لها الخيار أن تظل عاماً حسب وصية زوجها، ولها الخيار في أن تخرج بعد الأربعة الأشهر والعشر

:و الخلاصة
إختلف الفريقان هل الآية الأولى (234) نسخت الثانية (240) كما في كثير من تفاسير الأقدمين بينما يرى الفريق الثاني أن الآية الأولى تتحدث عن شيء غير الثانية (كما في تفسير الدكتور كيالي) أو أن هناك تفسير وسطي يوفق بين الرأيين في تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله كما أوردناه سابقاً

لكن ما نريد التأكيد عليه أن الحكم في النهاية ثابت عند الفريقين فكلاهما متفق أن عدّة المطلقة هي أربعة أشهر و عشراً سواء قلت أن الآية نُسخت أم لم تُنسخ وهو ما يعنينا بالدرجة الأولى فاختلاف رأي العلماء في النسخ و لم يغير في الحكم النهائي


الحالة الثالثة: هل هناك تعارض بين آية 180 في سورة البقرة و بين حديث النبي صلى الله عليه و سلم (لا وصية لوارث)

قال تعالى في سورة البقرة آية 180 : ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ))

و قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ) رواه أبو داود (2870) والترمذي(2120) والنسائي (3671) وابن ماجه (2713) والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
يقول العلامة ابن حزم الظاهرى رضى الله عنه أن ما لحق بآية الوصية إنما هو تخصيص لا نسخ

و يقول ابن عثيمين رحمه الله :( أولا: لأن الحديث ليس فيه نسخ، بل فيه التخصيص؛ لأن الآية فيها الأمر بالوصية للأقربين، وهذا يعم الوارث وغير الوارث، ثم رفع الحكم عن الوارث فقط، وهذا تخصيص لا نسخ؛ لأن النسخ رفع الحكم كله، لا رفع الحكم عن بعض أفراد العموم )

وقال بعض العلماء: لا نسخ في الآية؛ لأنه يمكن الجمع بين آية الوصية والحديث، أو بين آية الوصية وآيات المواريث بإعتبار الوصية المقصود منها غير الوارث بما يشمل الوالدين إن كانوا على دين غير الإسلام فشرعاً لا يحق لهم الميراث فالآية توصي بإعطائهم جزء من الميراث كوصية تقديراً لقيمتهم و دورهم في حياة الإنسان و إن كانوا على دين غير الإسلام. بينما آيات المواريث توضح نصيب للوالدين والأقربين الوارثين لأنهم على دين الإسلام.

يدعي البعض أن هذا الحديث قد نسخ الآية 180 من سورة البقرة فحرّم الوصية للوارث و هو قول غير صحيح لأن الجزء الأول من الحديث يغفله بعض الناس و هو (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)

و السبب أن هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه و سلم بعد نزول آيات المواريث من سورة النساء و هي من الآية 7 حتى 12 حيث قال تعالى: ((لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا))
إلى قوله تعالى : ((مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ))

فالذي نسخ هذه الآية هي آيات المواريث من سورة النساء و الدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم في بداية الحديث (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)

و يقول ابن عباس رضي اللَّه عنهما حيث قال: (إنَّ الذي نسخ آية الوصية آيةُ المواريث)

يقول الشيخ الشعراوي –رحمه الله- : (وقد جاء هذا الحكم قبل تشريع الميراث كانوا يعطون كل ما يملكون لأولادهم، فأراد الله أن يخرجهم من إعطاء أولادهم كل شيء وحرمان الوالدين والأقربين
وقد حدد الله من بعد ذلك نصيب الوالدين في الميراث، أما الأقربون فقد ترك الحق لعباده تقرير أمرهم في الوصية. وقد يكون الوالدان من الكفار، لذلك لا يرثان من الابن) و يتابع: (ذلك فالإنسان المؤمن يستطيع أن يوصي بشيء من الخير في وصيته للأبوين حتى ولو كانا من الكافرين، ونحن نعرف أن حدود الوصية هي ثلث ما يملكه الإنسان والباقي للميراث الشرعي. أما إذا كانا من المؤمنين فنحن نتبع الحديث النبوي الكريم: " لا وصية لوارث")

:و الخلاصة
:أولاً: لا تعارض بين الآية و الحديث و لا الحديث نسخ الآية لأنه يمكن الجمع بين الإثنين كما يلي

  1. أن (الوالدين) المقصودين من الآية هما الخارجين من الميراث –لأنهما على غير دين إبنهما- فتحق لهم الوصية و لا تعارض في ذلك مع الحديث

  2. أن (الأقربين) يعم الوارث وغير الوارث، ثم رفع الحكم عن الوارث فقط، وهذا تخصيص لا نسخ؛ لأن النسخ رفع الحكم كله، لا رفع الحكم عن بعض أفراد العموم.

ثانياً: أن الحكم في النهاية ثابت عند الفريقين
سواء من وافق على النسخ أو رفضه فكلاهما متفق أن الوصية لا تصح للورثة الشرعيين و لكن تصح الوصية لغير الورثة سواء كانوا للأب و الأم على غير دين إبنهما أو للأقربين من غير الوارثين


الحالة الرابعة: هل نسخت الآية 5 في سورة التوبة كل آيات السلم في القرآن

يقول تعالى في سورة التوبة : ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) – سورة التوبة آية 5

سمى البعض هذه الآية بآية السيف و إدعوا أنها نسخت كل آيات السلم و الآيات التي فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء و هو قول مرفوض من كبار علماء الفريقين (من يقول بالنسخ و من يرفضه)

يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه جهاد الدعوة: " لكن ناسا من المفسرين -عفا الله عنهم- لم يعيشوا في جو السورة، ولم يدركوا مواقع النزول، ولم يربطوا الحكم بحكمته. وزعموا أن السورة ألغت كل ما سبقها من آيات الدعوة والمسالمة، وأنها أحلت العنف مكان اللطف والإكراه مكان الحرية. وبهذا القول الجزاف نسخت مئة آية نزلت من قبل في أسلوب الدعوة". تبدأ سورة التوبة بـ ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين))، وهو ما يستدل به أصحاب القراءة الثانية للقول بأن السورة تحدد بوضوح المعنيين بالحرب. وهم فقط "الذين عاهدتم" وخرقوا العهد وليسوا كل المشركين في كل زمان ومكان، كما يقول أصحاب القراءة الأولى. تمنح السورة مهلة أربعة أشهر لهؤلاء المشركين لمراجعة مواقفهم قبل إعلان الحرب ضدهم. لكنها تستثني من الحرب الذين احترموا العهود الموقعة بينهم وبين المسلمين. وفي هذا، فتقول الآية الرابعة "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحد، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" من موقع الدكتور عدنان إبراهيم

:كما يقول علماء الأزهر في موسوعة (بيان الإسلام) ما يمكن إجماله في النقاط التاليه

  • أقر علماء الإسلام بالإجماع أن الآيات التي تدل على الدعوة إلى الإسلام دون إكراه آيات محكمة و ليست منسوخة

  • الآية 5 من سورة التوبة تنص على قتل المشركين لوصف الحرابة (و هي خروج طائفة مسلحة في بلاد المسلمين لإحداث الفوضى و النهب و هتك الأعراض...الخ سواء كانت هذه الطائفة من المسلمين أو غيرهم ماداموا في دار الإسلام)

  • الآية التالية مباشرة الآية 6 من سورة التوبة يقول تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ)) دليل أن الحرابة هي سبب القتال و ليس الكفر و إلا لتناقضت الآية –بإبلاغ الكافر مأمنه- مع من سبقتها –التي تحكم بقتله


الحالة الخامسة: هل نسخت الآية 150 من سورة البقرة الآية 115 من نفس السورة

قال تعالى: ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) – سورة البقرة 115

و يقول تعالى: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) – سورة البقرة آية 150

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
من ينفي النسخ يقول أن أنه لا يوجد نسخ أو تعارض بين الآيتين للأسباب الآتية
  • فالآية الأولى يقول تعالى: ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)) و هو أسلوب تخصيص لإقرار ملكية المشرق و المغرب لله فقط دون مشاركة من أحد فبما أنه المالك الأوحد فله أن يأمر عباده بالتوجه أينما يريد سبحانه و قد جاءت الآية الكريمة للرد على تشكيك اليهود عند تغيير القبلة

  • (ال) في ((الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)) تسمى الإستغراقية بمعنى كل مشرق و مغرب مثل قوله تعالى ((وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) – سورة العصر ف(ال) في ((الْإِنسَانَ)) هي ال الإستغراقية المقصود بها ليس إنسان واحد و إلا لا يمكن نستثني منه الكثير من البشر في قوله ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) فالمقصود جنس الإنسان كله و ليس فرد واحد من البشر

  • الآية الأولى (سورة البقرة 115) يراد منها حكم شرعي و هو :
    - جواز صلاة النافلة على الراحلة حيثما كانت وجهتها
    - جواز صلاة الفريضة عند تعذر استقبال القبلة كحالات الخوف والقتال
    - وقد يكون المراد منها عموم التوجه، بمعنى أن المؤمن في أي مكان كان من هذه الأرض، يمكن أن يتوجه إلى ربه، فإن الله مطلع عليه، وناظر إليه، مراقب لحاله، ومجيب لدعائه فلا تحتاج أن تتجه للقبلة عند الدعاء فالله تعالى في كل مكان ولا أفضلية لمكان عن مكان عنده سبحانه

من يقر بوجود النسخ أن الآية 150 نسخت الآية 115 حيث أمرت المسلمين بالتوجه إلى البيت الحرام تحديداً


الحالة السادسة: هل نسخت الآية 2 من سورة النور الآية 15 من سورة لنساء

قال تعالى: ((وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)) – سورة النساء الآية 15 و 16

و قال تعالى: ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)) – سورة النور آية 2

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
:من ينفي النسخ يقول أن أنه لا يوجد نسخ أو تعارض و يمكن تفسير الآيات بالطرق الآتية
أولاً: كلمة (الفاحشة) لا تعني بالضرورة الزنا فقط ففي اللغة الفاحشة تعني كل فعل تعظم كراهيته في الأنفس ويقبح ذكره في الألسن وشرعاً و في هذه الحالة العقاب هو الحبس. و إن كان هذا المبرر ضعيف نظراً لأن هناك روايات عن الصحابة مفسرة للآيتين بمعنى (الفاحشة) أي (الزنا)

ثانياً: ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال : (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) مما يعني أن الآيتين 15 و 16 حيث يقول تعالى: ((أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)) أوضحتا أن الله تعالى سوف يبين لاحقاً السبيل الذي به يرفع عن المرأة عقوبة الحبس مدى الحياة و هو ما جاء بيانه في الآية 2 من سورة النور و هو:((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ))

الأيتان 15 و 16 من سورة النساء نسختهما الآية 2 من سورة النور حيث تغير الحكم ففي الآيتين 15 و 16 من سورة النساء حكم الزنا (الفاحشة) هو الحبس في البيت حتى الموت بينما الآية 2 من سورة النور غيرت الحكم ليصبح الجلد

:و الخلاصة
لا تعارض بين الآيتين 15 و 16 من سورة النساء من جهه و الآية 2 من سورة النور من جهه أخرى و إنما جاءت الآية 2 من سورة النور كتوضيح للسبيل الذي أوجده الله تعالى للمرأة التي إرتكبت الفاحشة و هو توقيع حد الزنا عليها (و على الزاني بالطبع) و على هذا فلا تعارض بين الآيات


الحالة السابعة: هل نسخت الآية 85 من سورة آل عمران الآية 62 من سورة البقرة

قال تعالى في سورة البقرة آية 62: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))

و قال تعالى في سورة آل عمران آية 85: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) فيدعي البعض أن الآية الثانية نسخت الآية الأولى بل و هناك من يدعي وجود تناقض في القرآن بين الآية الثانية و بين الآية 256 من سورة البقرة حيث يقول تعالى: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ))

رأي من ينفي وجود النسخ رأي من يُقر بوجود النسخ
:من ينفي النسخ يقول أن أنه لا يوجد نسخ أو تعارض و يمكن تفسير الآيات بالطرق الآتية
أولاً: يقول شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب في تفسير هذه الآيات ما يلي
في القرآن الكريم كلمة (الإسلام) تأتي بمعنى (الدين الإلهي) و هو التسليم التام لإرادة الله تعالى وقد أقر به كل الأنبياء كما قال أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث قال: ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)) – سورة البقرة آية 128

و عن بني يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: ((مْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) – سورة البقرة آية 133

و يقول سيدنا نوح عليه السلام: ((وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) و قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل: ((وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)) – سورة يونس آية 84
و قال الحواريون لسيدنا عيسى عليه السلام : ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) – سورة آل عمران آية 52

إذن عقيدة كل الأنبياء واحدة و هي (الإسلام) بمعنى الإيمان و التسليم بالله وحده دون شريك

ثانياً: في الآية الثانية قال تعالى في سورة آل عمران آية 85: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) أي أن الله تعالى لن يتقبل منه دين آخر فهو تعالى لم يقل أن من يبتغ غير الإسلام ديناً يُقتل مثلاً بمعنى أن حرية الإختيار مكفولة لا جدال فيها أما قبول الله فهو أمر بيد الله وحدة لا شأن للبشر به فلا يجوز معاقبة إنسان لأنه إختار دين غير الإسلام

ثالثاً: العقيدة واحدة لكل الأنبياء و لكن إختلفت الشرائع فالإسلام كشريعة –أي قواعد و أحكام و آداب- إتفق من سائر الشرائع في بعض الأمور و إختلف في أخرى و دعوة النبي صلى الله عليه و سلم هي الخاتمة التي طالما نزلت فلن يقبل الله تعالى سوى الإيمان بها كعقيدة و شريعة

هذا لا يعني إعطاء المسلم الحق في معاقبة من إختار دين غير الإسلام فحرية العقيدة مكفولة و ممنوع المساس بها من أي فرد و لعل الإسلام أول دين ألزم أهله ومعتنقيه احترام حرية عقيدة ودين الآخرين فقال تعالى : ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) – سورة يونس آية 99 فحتى النبي صلى الله عليه و سلم كان محظوراً عليه أن يجبر الناس على إعتناق الإسلام

يقولون أن الآية في سورة آل عمران آية 85: ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) قد نسخت حكم الآية 62 من سورة البقرة حيث قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))

:و الخلاصة
لا تعارض بين الآيتين فكل من آمن بواحدنية الله تعالى (يهود – نصارى - صابئون) و عبده وحده (و هي عقيدة الإسلام) قبل بعثه النبي صلى الله عليه و سلم فسيكافئه الله تعالى طالما كان عمله خيراً اما بعد بعثة النبي صلى الله عليه و سلم فالله تعالى يخبرنا في الآية الثانية أنه تعالى لن يقبل غير دين الإسلام (عقيدة و شريعة) و مع هذا فحرية الإختيار مكفولة للجميع دون تخويف أو قسر بأمر من الله تعالى و لا يحق لإنسان أيا كان –حتى النبي نفسه صلى الله عليه و سلم- أن يجبر أحد على إعتناق الإسلام فلكل إنسان حرية الإختيار و لله تعالى حرية التقبل ممن يشاء

:و في النهاية
نجد لكل آية إعتبرها بعض العلماء مثالاً للنسخ بينما أوجد الطرف الآخر تفسيرات تبرر عدم تعارض الآيات و عدم وجود نسخ فيها و لقد كتب الكثير من علماء الدين الأجلاء كتباً كاملة للرد على فكرة الآيات الناسخة و المنسوخة البعض أزاد في الآيات و البعض أوجد ردود مقنعة لرفض النسخ و ما أوردناه هنا مجرد أمثلة لتوضيح الفكرة العامة و ليس على سبيل الحصر

ثالثا: الإستنتاج الأخير من مجمل البحث
  1. سواء كنت ممن يقر بوجود النسخ أو ممن يرفض النسخ في القرآن فأحكام الإسلام لا تتغير عند الطرفين أما ما يتعلق بقصص الأقدمين أو العقيدة فقد إتفق الطرفان على أنه لا نسخ في آيات العقيدة و الأخبار فأين المشكلة إذن؟؟ فمثلاً إذا سألت أي من الطرفين عن تحريم الخمر أو عدة المطلقة سيكون الجواب واحداً دائماً لا خلاف فلماذا نتصارع هل هناك نسخ أم لا إن كانت القضية بكاملها لا تمس عقيدتنا في شيء و إنما يمكن تسمية الموضوع برمته خلاف مسميات بين العلماء لا يؤثر من قريب أو بعيد على أحكام الدين و العقيدة

  2. لابد أن نعي أن مسمى (نسخ) عند الاقدمين معناه يختلف عن زماننا الحالي فلا يفزعك أحد بقول إن فلان من الصحابة –رضوان الله تعالى عليهم جميعا- قد أقر بالنسخ لأن مفهوم النسخ عنده غير مفهومه عندك كما أوضحنا بالتفصيل في بداية البحث فلا يخيفك أحد أو يرهبك بعناوين رنانة و أسماء رجال ثقات فالطرفان بهما رجال ثقات و الطرفان متفقان على ثبات العقيدة والأحكام فلا تدع خلاف العلماء في مسميات يلبس عليك عقيدتك.

  3. هناك من يستغل خلاف العلماء ليدعي ضعف الدين أو تناقضه وهذه أخطر نقطة في القضية فلتعلم أبعاد القضية و نقاط الخلاف و أعلم أن لكل رأي وجاهته و نحترم و نقدر علمائنا جميعا لكن الإسلام رحب و متين لا تهزه خلافات العلماء لأنه فتح الباب لإعمال العقل لكل مؤهل عالم و هذه الخلافات مهما عظمت فهي لن تمس ثبات الدين و تماسكه بل على العكس هذه الخلافات في كثير من الأحيان أدت إلى بحوث و تعمق أكبر في أمور الدين مما أثرى علوم الدين بشكل كبير و أسهم في إيجاد الكثير من الإجابات لأمور قد تكون مبهمة قبل ذلك

  4. إسمحوا لنا بهمسة عتاب في أذن بعض علمائنا الأجلاء رجاء (إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) قد تختلفوا نعم و لكن لا تجعلوا الخلاف يجعل بعضكم يكيل الإتهامات للطرف الآخر فهذه الإتهامات هي ما يتصيدها عدو دينك ليهاجم منها عقول العامة من ليسوا على درجتكم من العلم فقد يتزعزع دينه أو إحترامه لعلماء الدين بسبب هذه المهاترات و الإتهامات المتبادلة فيكون هذا مدخل الشيطان لعقله و قلبه فيقع فريسة دعاوى الإلحاد التي يروج لها الآن بصورة مستميتة...لا تفتنوا الناس بخلافاتكم و كونوا قدوة في إحترام الرأي و الرأي الآخر طالما القائل عالم مؤهل