موقع السراج

Alsiraj Banner Image

مقتطفات من كتاب هل بشر الكتاب المقدس
بمحمد صلى الله عليه وسلم؟
كتبه د. منقذ بن محمود السقار

داود يبشر بنبي من غير ذريته ذرية إسماعيل المباركة
نبوءة موسى عن البركة الموعودة في أرض فاران من هو الذبيح المبارك؟
وأين هي الأرض المباركة؟
المزامير تبشر بصفات نبي آخر الزمان هل الاصطفاء في بني إسرائيل فقط؟
المسيح يبشر بالبارقليط بشارة يعقوب عليه السلام بشيلون
موسى عليه السلام يبشر بظهور نبي ورسول مثله

ذرية إسماعيل المباركة

خرج إبراهيم عليه السلام من أرض العراق واتجه إلى الأرض المباركة، أرض فلسطين، وتذكر التوراة أن عمره حينذاك الخامسة والسبعين، ولما يولد له ولد، وخرج بعد أن بشره الله بأن قال: "أجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة... وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" - التكوين 12/2 - 3

وفي أرض فلسطين حملت هاجر - مولاة سارة - بابنها إسماعيل، وتذكر التوراة غِيرة سارة من هاجر وقد أضحى لها ذرية، فيما حرمت سارة الولد والذرية حتى ذلك الحين

عندها أذلت سارة هاجر، فهربت هاجر من وجه مولاتها " فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها وقال لها ملاك الرب: تكثيراً أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة، وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابناً وتدعين اسمه: إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً(1) يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن " (التكوين 16/11 - 12) لقد بشرها الملاك بابن عظيم يسود على كل أحد، لكنه أحياناً يكون على خلاف ذلك، فيتسلط عليه كل أحد

وولدت هاجر ابنها إسماعيل فكان بكراً لإبراهيم، "وكان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل" - التكوين 16/16

ولما بلغ إبراهيم التاسعة والتسعين تجددت البركة من الله لإبراهيم " قال له: أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً، فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيراً جداً.. أجعلك أباً لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً... " - التكوين 17/1 - 8

وابتلى الله إبراهيم، فأمره بذبح ابنه الوحيد يومذاك، إسماعيل، فاستجاب وابنه لأمر الله، وحينها "نادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء، وقال: بذاتي أقسمت، يقول الرب، إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً، كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه" - التكوين 22/1-17

وطلب إبراهيم من الله الصلاح في ابنه إسماعيل: " قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك" - التكوين 17/18 فاستجاب الله له وبشره بالبركة فيه وفي ابن آخر يهبه الله له، فقد بشره بميلاد إسحاق من زوجه سارة فقال: " وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً، وملوك شعوب منها يكونون... وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة " - التكوين 17/16 - 20

وقد كان إسحاق أصغر من إسماعيل بأربعة عشر سنة "وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحق ابنه" - التكوين 21/5 وقد ولد لإبراهيم أبناء آخرون من زوجته قطورة، لكن الله لم يعده بالبركة فيهم "عاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا" التكوين 25/1-2 ولم يخرج من نسلهم أنبياء لعدم الوعد فيهم بالبركة

وهذا الذي تذكره التوراة يتفق إلى حد كبير مع ما يقوله القرآن، فالقرآن يقرر بركة وعهداً لإبراهيم في صالحي ذريته من ابنيه المباركين إسماعيل وإسحاق، حيث يقول وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ سورة البقرة آية 124

وذكر الله بركة الابنين وأن من ذريتهما صالح هو مستحق للعهد، وظالم ليس له من العهد شيء فقال عن إسماعيل: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ - سورة الصافات آية 113

وهذا يتفق مع ما جاء في التوراة التي نصت على أن العهد والاصطفاء مشروط بالعمل الصالح "سر أمامي وكن كاملاً فأجعل عهدي.. " - التكوين 17/1 - 2 كما قال له: " إبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأني عرفته، لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب، ليعملوا براً وعدلاً، لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به " - التكوين 18/18 - 19 فبركة الله إنما تكون للصالحين

لكن البركة تبدأ بإسحاق دون إسماعيل، وذلك لا يعني حرمان إسماعيل من نصيبه من البركة "ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت، في السنة الآتية " - التكوين 17/21

وتذكر التوراة أنه بعد فطام إسحاق، هاجرت هاجر وابنها وأنها " مضت وتاهت في برية بئر سبع، ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار...ونادى ملاك الله هاجر...قومي احملي الغلام، وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء...وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر "-التكوين 21/17-21

ويتجاهل النص التوراتي خصوصية إسماعيل في نبع ماء زمزم المبارك في مكة المكرمة، ويرى قصة الهجرة في صحراء بئر سبع جنوب فلسطين، ثم يسميها برية فاران فما هي البركة التي جعلها الله في إسحاق وإسماعيل؟ هي بلا ريب بركة النبوة والكتاب والملك بأمر الله والظهور باسمه وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - سورة الجاثية آية 16

ويعتبر اليهود والنصارى من بعدهم أن الوعد في إسحاق وعد أبدي لن ينتقل إلى غيرهم، فقد قيل: "فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً، وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً، لنسله من بعده... ولكن عهدي أقيمه مع إسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية" - التكوين 17/19-21، فقد فهموا من كلمة (أبدياً) أن العهد لبني إسرائيل إلى يوم القيامة، وأنه غير مشروط ولا متعلق بصلاحهم وانقيادهم لأمر الله

لكن كلمة الأبد لا تعني بالضرورة الاستمرار إلى قيام الساعة، بل تعني طول الفترة فحسب، ومثل هذا الاستخدام معهود في التوراة، يقول سفر الملوك: "فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد" - ملوك (2) 5/27 ، فالأبد هنا غير مقصود، وإلا لزم أن نرى ذريته اليوم أمة كبيرة تتوالد مصابة بالبرص

وفي سفر الأيام "وقال لي: إن سليمان ابنك، هو يبني بيتي ودياري، لأني اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أباً، وأثبت مملكته إلى الأبد" الأيام (1)28/6، وقد انتهت مملكتهم منذ ما يربو على 2500 سنة على يد بختنصر البابلي، فالمراد بالأبدية الوقت الطويل فحسب

ووقتَّ سفر التثنية الأبدية بما يساوي عشرة أجيال، فقال: "لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد، من أجل أنهم لم يلاقوكم بالخبز والماء" - التثنية 33/3-4، فالجيل الحادي عشر للمؤابي غير محروم من جماعة الرب، وهو دون الأبد والقيامة

ومثله قول دانيال لنبوخذ نصر: "فتكلم دانيال مع الملك: يا أيها الملك عش إلى الأبد" - دانيال 6/21، أي عش طويلاً

وعليه نقول: إن العهد قد بدأ بإسحاق، وهو وعد أبدي متطاول إلى أجيال بعيدة، وهو ما تم حين بعث الله النبيين في بني إسرائيل، وأرسل إليهم الكتب، وأيدهم بسلطانه وغلبته على الأمم التي جاورتهم، وأقام لهم مملكة ظافرة إلى حين

ويتفق اليهود والنصارى مع المسلمين في أن بركة إسحاق هي النبوة والملك والكتاب والكثرة والغلبة، في حين يعتبرون وعد إسماعيل وبركته هي الكثرة فقط، " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة " - التكوين 17/20

وهذا التفريق أيضاً بخلاف ما جاء في النصوص التي لم تفرق بالألفاظ والمعاني بين الأخوين المباركين، وعليه فبركة إسماعيل هي كبركة إسحاق: نبوة وكتاب وحكم وكثرة. فمتى تحقق ذلك لإسماعيل؟ متى اجتمع له ذلك

نقول: لم يجتمع له ذلك إلا في بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم من ذريته، فتحولت قبائل بنيه المتفرقة الضعيفة إلى ملك عظيم ساد الدنيا، واجتمع إلى كثرتهم النبوة والكتاب، فتحقق ما وعد الله إبراهيم وهاجر في ابنهما إسماعيل

وإلا فأين تحققت البركة في إسماعيل الذي أخبر النص عن حاله، فقال: " يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه " (التكوين 6/12) أي أنه يغلب تارة فيسود الجميع كما يسود الجميع عليه تارة أخرى

وقد ساد العرب المسلمون الأمم برسول الله ودولته، وفيما عدا ذلك كانوا أذل الأمم وأضعفها وأبعدها عن أن يكونوا محلاً لبركة الله، إذ لا بركة في قبائل وثنية تكاثرت على عبادة الأوثان والظلم، فمثل هؤلاء لا يكونون في بركة الله

وإذا عدنا إلى النصوص العبرية القديمة التي تحدثت عن إسماعيل نجد النص كالتالي " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً (بماد ماد) اثني عشر رئيساً يلد، وأجعله أمة كبيرة (لجوى جدول) - التكوين 12/2

فكلمتي (ماد ماد) و (لجوى جدول) هما رمزان وضعا بدل اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمة (ماد ماد) - حسب حساب الجمّل (2) الذي يهتم به اليهود ويرمزون به في كتبهم ونبوءاتهم تساوي 92، ومثله كلمة " لجوى جدول " وهو ما يساوي كلمة محمد وكان السمؤل أحد أحبار اليهود المهتدين إلى الإسلام قد نبه إلى ذلك، ومثله فعل الحبر المهتدي عبد السلام في رسالته - الرسالة الهادية

ونقول: إن ما جاء في سفر التكوين عن وجود بركة في العرب تمثلت بنبوة وملك يقيمهم الله في العرب هو النقطة الأساس التي يخالفنا فيها أهل الكتاب، وهي المدخل الأهم لنبوءات الكتاب المقدس، إذ أن كثيراً مما يذكره المسلمون من نصوص توراتية يرونها نبوءات بالرسول صلى الله عليه وسلم، كثير من هذه النصوص يراها النصارى أيضاً نبوءات بالمسيح أو غيره من أنبياء اليهود، ويمنعون أن تخرج هذه النبوءات عن بني إسرائيل

وفي النص العبري استخدم كلمة (بارا أدوم) أي إنساناً مثمراً، فيما الترجمة المتداولة تجعله وحشياً؟ (1)
يجعل اليهود لكل حرف من الحروف مقابلاً من الأرقام، فالألف =1، والباء=2، …..وهكذا حسب الترتيب الأبجدي، ويعطى الحرف الحادي عشر (ك) الرقم20، و(ل) =30.... فيما يعطى الحرف التاسع عشر (ف) الرقم 100، ثم (ص) =200...وهكذا (2)

من هو الذبيح المبارك؟ وأين هي الأرض المباركة؟

تتحدث التوراة عن قصة أم الله إبراهيم بذبح ابنه الوحيد ، وبدلاً من أن تسميه إسماعيل فإنها سمته إسحاق، وطبقاً لهذا التغيير تغير الزمان والمكان الذي جرت به القصة

ومما جاء في القصة التوراتية " خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب به إلى أرض المريا... فلما أتيا الموضع.... لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئاً، لأني الله علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني.... فدعا إبراهيم ذلك الموضع: "يهوه يراه" حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى... يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة...... " - التكوين 22/1 - 18

وفيما تقدم عدة بشارات تبشر بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ونرى يد التحريف والعنصرية تحاول طمس هذه البشارات فمن التحريف البين إدراج اسم إسحاق الذي لم يكن وحيداً لإبراهيم قط، وقد تكرر وصف الذبيح بالوحيد ثلاث مرات، وقد رأينا أن إسماعيل كان وحيداً لإبراهيم أربع عشرة سنة

والبكورية لإسماعيل محفوظة وإن كان ابن هاجر - مولاة سارة - التي اتخذها زوجة فيما بعد، فمنزلة الأم لا تؤثر في بكورية الابن ولا منزلته، وقد جاء في التوراة: " إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة، والأخرى مكروهة، فإن كان الابن البكر للمكروهة، فيوم يقسم لبنيه ما كان له لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر بل يعرف ابن المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين في كل ما يوجد عنده، لأنه هو أول قدرته له حق البكورية " - التثنية 21/15 - 17

ومما يبطل أن يكون الذبيح إسحاق أن إبراهيم قد وعد فيه بالبركة والذرية منه قبل ولادته، وأنه سيكون كعدد نجوم السماء - انظر التكوين 17/21 فالأمر بذبحه لا ابتلاء فيه، لأنه يعلم أنه سيكون لهذا الابن نسل مبارك

وهو ما صرح به المسيح حسب إنجيل برنابا الذي نذكر الاستشهاد به استئناساً فقط فقد قال له التلاميذ: يا معلم هكذا كتب في كتاب موسى: إن العهد صنع بإسحاق؟
أجاب يسوع متأوهاً: هذا هو المكتوب، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع، بل أحبارنا الذين لا يخافون الله. الحق أقول لكم: إنكم إذا أكملتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون خبث كتبتنا وفقهائنا.. كيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين - برنابا 44/1 - 11، وفي التوراة المتداولة أن بينهما أربعة عشرة سنة - انظر التكوين 16/16، 21/5

ومن ذلك كله فالذبيح هو إسماعيل، وجبل الرب في الأرض التي عاش فيها، والبركة لإبراهيم في ذريته محفوظة له بعد أن قام بالاستسلام لأمر الله وهمّ بذبح ابنه الوحيد

فقد حرف أهل الكتاب اسم الذبيح، وحرفوا اسم المكان المعظم الذي جرت فيه أحداث القصة، فسمتها التوراة السامرية " الأرض المرشدة ". فيما سمته التوراة العبرانية " المريا "، ولعله تحريف لكلمة " المروة "، وهو اسم لجبل يقع داخل المسجد الحرام في مكة المكرمة اليوم، أي في المكان الذي درج فيه إسماعيل

وقد اتفق النصان العبري والسامري على تسمية ذلك الموضع "جبل الله "، ولم يكن هذا الاسم مستخدماً لبقعة معينة حينذاك لذا اختلف اليهود في تحديد مكانه اختلافاً بيناً فقال السامريون: هو جبل جرزيم وقال العبرانيون: بل هو جبل أورشليم الذي بني عليه الهيكل بعد القصة بعدة قرون

والحق أن قصة الذبح جرت في الأرض المرشدة وهي أرض العبادة، وهي مكة أو بلاد فاران، واختلافهم دليل على صحة ذلك، واتفاقهم على اسم المكان بجبل الرب صحيح، لكنهم اختلفوا في تحديده، وقد ربطوه بتسميات ظهرت بعد الحادثة بقرون عدة، وتجاهلوا البيت المعظم الذي بني في تلك البقعة حينذاك، ويسمى بيت الله كما سمي الجبل الذي في تلك البقعة جبل الله

وبقي هذا الاختلاف من أهم الاختلافات التي تفرق السامريين عن العبرانيين، وقد استمر في حياة المسيح، وذات مرة دخلت عليه امرأة سامرية، وسألته عن المكان الحقيقي المعد للعبادة، فأفصح لها المسيح أن المكان ليس جبل جرزيم السامري، ولا جبل عيبال العبراني الذي بني عليه الهيكل، " قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص هو من اليهود ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" - يوحنا 4/19-24

فمن هم الساجدون الحقيقيون الذين يسجدون في غير قبلة السامريين والعبرانيين، إنهم الأمة الجديدة التي تولد بعد حين، إذ لم تدع أمة قداسة قبلتها سوى أمة الإسلام التي يفد إليها ملايين المسلمين سنوياً في مكة المكرمة

وقوله عن ساعة قدوم الساجدين الحقيقيين" ولكن تأتي ساعة وهي الآن"، يفيد اقترابها لا حلولها، كما في متى: " أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء" - متى 26/64، وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء
ومثله قول المسيح: "وقال له: الحق الحق أقول لكم، من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" - يوحنا 1/51

وقد قال ميخا النبي عن مكة والبيت الحرام وعن إتيان الناس للحج عند جبل عرفات: " يكون في آخر الأيام بيت الرب مبنياً على قلل الجبال، وفي أرفع رؤوس العوالي يأتين جميع الأمم، ويقولون: تعالوا نطلع إلى جبل الرب" - ميخا 4/1-2

كما رمز النبي إشعيا لمكة في نص آخر بالعاقر، وتحدث عن الجموع الكثيرة التي تأتي إليها، ويعدها بالأمان والبركة والعزفقال: " ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب:أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي، أطيلي أطنابك وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين والى اليسار، ويرث نسلك أمماً ويعمر مدناً خربة، لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنك لا تستحين، فإنك تنسين خزي صباك، وعار ترملك لا تذكرينه بعد

قال راحمك الرب: أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية، هانذا أبني بالإثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيراً، بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منك، ها إنهم يجتمعون اجتماعاً ليس من عندي، من اجتمع عليك فإليك يسقط، هانذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ويخرج آلة لعمله، وأنا خلقت المهلك ليخرب كل آلة صورت ضدك لا تنجح، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه، هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي"-إشعيا 54/1-17

في النص مقارنة لمكة بأورشليم، فسمى مكة بالعاقر لأنها لم تلد قبل محمد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس، لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي، وقد يشكل هنا أن نبوة إسماعيل كانت في مكة، فلا تسمى حينذاك عاقراً، لكن المراد منه مقارنة نسبية مع أنبياء أورشليم

وقوله: "لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل"، يقصد فيه أن زوارها أو أبناءها أكثر من زوار أورشليم التي يسميها ذات البعل، ولفظة بنو المستوحشة يراد منها ذرية إسماعيل، الذي وصفته التوراة – كما سبق- بأنه وحشي " وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابناً وتدعين اسمه: إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه" - التكوين 16/11 - 12

كما تحدثت المزامير عن مدينة المسيح المخلص، المدينة المباركة التي فيها بيت الله، والتي تتضاعف فيها الحسنات، فالعمل فيها يعدل الألوف في سواها، وقد سماها باسمها (بكة) فجاء فيها:"طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك، سلاه، طوبى لأناس عزهم بك، طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء في الترجمة الإنجليزية
"through the valley of Ba'ca make it a well"
فذكر أن اسمها بكة، وترجمته إلى وادي البكاء صورة من التحريف كما أسلفنا يصيرونه ينبوعاً، أيضاً ببركات يغطون مورة، يذهبون من قوة إلى قوة، يرون قدام الله في صهيون، يا رب إله الجنود اسمع صلاتي وأصغ يا إله يعقوب، سلاه، يا مجننا انظر يا الله والتفت إلى وجه مسيحك، لأن يوماً واحداً في ديارك خير من ألف، اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار " - المزامير 84/4-10

والنص كما جاء في ترجمة الكاثوليك كالتالي: "يجتازون في وادي البكاء، فيجعلونه ينابيع ماء، لأن المشترع يغمرهم ببركاته، فينطلقون من قوة إلى قوة، إلى أن يتجلى لهم إله الآلهة في صهيون" - 83/7-8

وهذا الاسم العظيم (بكة) هو اسم بلد محمد صلى الله عليه وسلم، الاسم الذي استخدمه القرآن للبلد الحرام إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ - سورة آل عمران آية 96


هل الاصطفاء في بني إسرائيل فقط؟

تتحدث النصوص الإنجيلية بتناقض ظاهر عن موضوع الخلاص الآتي، فحسب يوحنا فإن المسيح قال للسامرية في سياق حديثه عن المسيا: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يوحنا 4/22). لكن هذا الأمر ترده الكثير من النصوص الإنجيلية والتوراتية الأخرى، والتي تلقي بظلال الشك على صحة صدور هذه العبارة من المسيح، خاصة أنها ظاهرة الإدراج في السياق الذي وردت فيه

ونرى هنا من الأهمية بمكان أن نذكر نصوص الكتاب المقدس التي تدل على احتمالية انتقال النبوة عن بني إسرائيل إلى أمة سواهم كالعرب؟
لقد أرسل الله أنبياء كثر إلى بني إسرائيل، فكفروا بهم وقتلوهم، ولنتأمل ما قاله الأنبياء عن هذه الأمة المتمردة، لنرى إن كانت مستحقة لدوام البركة والاصطفاء، فقد قال عنهم موسى: "إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم، لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأملوا آخرتهم"-التثنية 32/28
وقال: "جيل أعوج ملتو، ألرب تكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم؟" - التثنية 32/5-6

وكذا قال النبي إيليا:"قد غِرت غيرة للرب إله الجنود، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، فبقيت أنا وحدي، وهم يطلبون نفسي ليأخذوها"-الملوك (1)19/10

وكذا كان وصف الله لهم في سفر النبي حزقيال: "وقال لي: يا ابن آدم، أنا مرسلك إلى بني إسرائيل، إلى أمة متمردة قد تمردت عليّ، هم وآباؤهم عصوا عليّ إلى ذات هذا اليوم. والبنون القساة الوجوه، والصلاب القلوب، أنا مرسلك إليهم، فتقول لهم: هكذا قال السيد الرب، وهم إن سمعوا وإن امتنعوا. لأنهم بيت متمرد. فإنهم يعلمون أن نبياً كان بينهم، أما أنت يا ابن آدم فلا تخف منهم، ومن كلامهم لا تخف... وأنت ساكن بين العقارب، من كلامهم لا تخف، ومن وجوههم لا ترتعب، لأنهم بيت متمرد، وتتكلم معهم بكلامي، إن سمعوا، وإن امتنعوا، لأنهم متمردون" - حزقيال2/3-8

وكذا قال عنهم النبي إشعيا: "اسمعي أيتها السماوات وأصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم، ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ، الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم، ويل للأمّة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين، تركوا الرب استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء، على أي موضع تضربون بعد.تزدادون زيغاناً، كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت" - إشعيا 1/1- 6

ولما جاء المسيح نادى أورشليم: " يا قاتلة الأنبياء " (متى 13/37)، لكثرة من قتلوا على ثراها من أنبياء الله الكرام
وقال المسيح وهو يخاطب جموعهم: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون …. ويل لكم أيها القادة العميان … أيها الجهال والعميان … أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم، لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم... يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين... " - متى 23/13 - 37

أفهذه أمة تستحق بقاء البركة والنبوة فيها؟ وإن كان لا، فمن ذا الأمة التي تكون مختارة ومصطفاة؟ من عساها تكون سوى الأمة الموعودة بالبركة مراراً من نسل إسماعيل عليه السلام؟ إن أمة من الأمم لم تدّع أنها تلك الأمة المصطفاة


بشارة يعقوب عليه السلام بشيلون

وقد توالى الأنبياء وهم يبشرون بمقدم نبي آخر الزمان، ويذكرون صفاته وأحواله والتي من أهمها أنه ليس من بني إسرائيل كما أنه صاحب شريعة تدوم إلى الأبد، يسحق أعداءه، ودعوته تكون لخير جميع الأمم

وهذه الصفات لم تتوافر في أحد ادعى النبوة سواه، ولا يمكن للنصارى حمل تلك النبوءات التي يقرون في أنها نبوءات، لا يمكن لهم أن يحملوها على غيره ، إذ موسى وعيسى كانا نبيين إلى بني إسرائيل فقط، وكان موسى صاحب شريعة انتصر أتباعه على أعدائهم، وأما عيسى فلم ينزل بشريعة مستقلة، إذ هو نزل بشريعة موسى وبتكميلها، فهو القائل: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" (متى 5/17)، ولم يقيض له أن ينتصر على أعدائه، بل تزعم النصارى أنهم تمكنوا منه وصلبوه فكيف يقال بأنه المختار الذي يسحق أعداءه وتترقبه الأمم؟

وأقدم النبوءات الكتابية التي تحدثت عن النبي الخاتم جاءت في وصية يعقوب لبنيه قبل وفاته حين قال لهم: " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب " - التكوين 49/10

وتختلف التراجم في ثلاث من كلمات النص، فقد أبدل البعض كلمة "قضيب" بالملك أو الصولجان، وكلها بمعنى واحد، وكذا أبدلت كلمة "مشترع" بالراسم والمدبر، وهي متقاربة بمعنى صاحب الشريعة مدبر قومه

وأما الاختلاف الأهم فكان في كلمة "شيلون" التي أبقتها معجم الترجمات على حالها، وفي تراجم عبرانية أخرى قيل: " إلى أن يأتي المسيح "، وقد فسر القس إبراهيم لوقا "شيلون" بالمسيح، واعتبرها ترجمة صحيحة لكلمة " شيلوه " العبرية، وذكرت الطبعة الأمريكية للكتاب المقدس في هامشها أن كلمة " شيلون " تعني: الأمان، أو: الذي له. فما هو المعنى الدقيق للكلمة (شيلون) التي تدور حولها النبوءة؟

في الإجابة عن هذا السؤال يرى القس السابق عبد الأحد داود أن كلمة " شيلون " لا تخرج في أصلها العبري عن معان، أهمها
أولاً : أن تكون من الكلمة سريانية مكونة من كلمتي "بشيتا" و "لوه"، ومعنى الأولى منهما: "هو" أو "الذي"، والثانية (لوه) معناها " له "، ويصبح معنى النبوءة حسب ترجمته المفسرة: " إن الطابع الملكي المتنبئ لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجيء الشخص الذي يخصه هذا الطابع، ويكون له خضوع الشعوب

ثانياً : أن تكون الكلمة محرفة من كلمة " شيلواح " ومعناها: " رسول الله " كما يعبر بالكلمة مجازاً عن الزوجة المطلقة لأنها ترسل بعيداً، وتفسير الكلمة بالرسالة مال إليه القديس جيروم، فترجم العبارة " ذلك الذي أرسل

وأياً كان المعنى فإن النبوءة تتحدث عن شخص تدعوه: شيلون. وليس عن المكان المسمى "شيلون" كما ادعى بعض المفسرين، فمن هو شيلون؟
لا يمكن القول بأن شيلون هو موسى، لأن ملوك يهوذا كانوا بعده بقرون، ولا يمكن القول بأنه سليمان، لأن الملك دام بعده في ذريته ولم ترفع به الشريعة، كما لم ترفع بالمسيح الذي ما جاء لنقض الناموس ولم تخضع له شعوب، بل ولا شعب اليهودية الذين بعث إليهم فقال: " لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " - متى 15 / 24

والمسيح لم يكن ملكاً بل هرب منهم لما أرادوا تمليكه عليهم " لما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده " - يوحنا 6/15

ولما ادعى عليه اليهود عند بيلاطس أنه يقول عن نفسه بأنه ملك نفى ذلك، وتحدث عن مملكة روحية مجازية غير حقيقية فقال: " مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود " - يوحنا 18/36

ولا يمكن أن يكون هذا النبي من بني إسرائيل، لأن مبعثه يقطع صولجان وشريعة إسرائيل كما يفهم من النص، فمن ذا يكون شيلون؟

إنه النبي الذي بشرت به هاجر وإبراهيم " يده على كل واحد " (التكوين 16/12) والذي قال عنه النبي حزقيال: " يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه " - حزقيال 21/27

وقد قال المسيح مبشراً بالذي ينسخ الشرائع بشريعته: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل،
فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل"-متى 5/17-18 هذا "الذي له الكل"، هو " الذي له الحكم

وهو النبي الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها "وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل، لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض" - كورنثوس(1) 12/8-10


موسى عليه السلام يبشر بظهور نبي ورسول مثله

وينـزل موسى عن جبل الطور بعد ما كلمه ربه فيقول مخاطباً بني إسرائيل: " قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي

وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه " - التثنية 18 / 17 - 22 والنص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، والتي نستطيع من خلالها معرفة من يكون

ويزعم النصارى أن هذا النبي قد جاء، وهو عيسى عليه السلام، فقد قال بطرس في سياق حديثه عن المسيح " فإن موسى قال للآباء: إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به، ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب، وجميع الأنبياء أيضاً من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام " (أعمال 3/22 - 26) فبطرس يرى نبوءة موسى متحققة في شخص المسيح

لكن النص دال على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لا دليل عند النصارى على تخصيصه بالمسيح، بينما يظهر في النص عند تحليله أدلة كثر تشهد بأن المقصود به هو نبينا صلى الله عليه وسلم. إذ يذكر النص التوراتي أوصاف هذا المبعوث المبشر به
أولاً : أنه نبي " أقيم لهم نبياً "، والنصارى يدعون للمسيح الإلهية، بل يدعي الأرثوذكس أنه الله نفسه، فكيف يقول لهم: أقيم نبياً، ولا يقول: أقيم نفسي

ثانياً : أنه من غير بني إسرائيل، بل هو من بين إخوتهم أي أبناء عمومتهم "من وسط إخوتهم"، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بن إسحاق، وبنو إسماعيل بن إبراهيم

ومن المعهود في التوراة إطلاق لفظ " الأخ " على ابن العم، ومن ذلك قول موسى لبني إسرائيل: " أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو " (التثنية 2/4) وبنو عيسو بن إسحاق – كما سلف - هم أبناء عمومة لبني إسرائيل، وجاء نحوه في وصف أدوم، وهو من ذرية عيسو "وأرسل موسى رسلاً من قادش إلى ملك أدوم، هكذا يقول أخوك إسرائيل: قد عرفت كل المشقة التي أصابتنا (العدد20/14)، فسماه أخاً، وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل

وعليه فهذا النبي يحتمل أن يكون من العرب تحقيقاً للبركة الموعودة في نسل إسماعيل، وقد يكون من بني عيسو بكر إسحاق لكن أحداً من بني عيسو لم يدع أنه النبي المنتظر

ثالثاً : هذا النبي من خصائصه أنه مثل لموسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله-ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه-التثنية:34/10 وفي التوراة السامرية ما يمنع صراحة قيام مثل هذا النبي فقد جاء فيها: " ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله" - التثنية 34/10

وهذه الخصلة، أي المثلية لموسى متحققة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ممتنعة في المسيح، حيث نرى الكثير من أمثلة التشابه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، والتي لا نجدها في المسيح، من ذلك ميلادهما الطبيعي، وزواجهما، وكونهما صاحبا شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما قاد أمته، وملك عليها، وكلاهما بشر، بينما تزعم النصارى بأن المسيح إله، وهذا ينقض كل مثل لو كان

وقد وصف المسيحُ النبي القادم بمثلية موسى، صارفاً إياه عن نفسه فقال: " لا تظنوا إني أشكوكم إلى الآب، يوجد الذي يشكوكم، و هو موسى الذي عليه رجاؤكم، لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني، فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي" (يوحنا 5/45-47)، فسماه موسى المرجو أو المنتظر، لمشابهته له

وعن هذا الذي يشكو بني إسرائيل يقول المسيح: أجاب يسوع: أنا ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي وأنتم تهينونني، أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين
يوحنا 8/49-50

رابعاً : من صفات هذا النبي أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة " وأجعل كلامي في فمه "، وقد كان المسيح عليه السلام قارئاً - انظر لوقا 4/16-18

خامساً : أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، فهو " يكلمهم بكل ما أوصيه به ". وهو وصف منطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أواخر ما نزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالىالْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً - سورة المائدة آية 3

وقد وصفه المسيح في نبوءة البارقليط، التي يأتي شرحها، فقال: " وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" - يوحنا 14/26

ولا يمكن أن يكون المسيح عليه السلام هو ذلك النبي الذي يبلغ كل ما يوصيه به ربه فقد رفع المسيح عليه السلام ولديه الكثير مما يود أن يبلغه إلى تلاميذه لكنه لم يتمكن من بلاغه لكنه بشرهم بالقادم الذي سيخبرهم بكل الحق لأنه النبي الذي تكمل رسالته ولا يحول دون بلاغها قتله أو إيذاء قومه يقول عليه السلام:"إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به"-يوحنا 16/12-13

سادساً : أن الذي لا يسمع لكلام هذا النبي فإن الله يعاقبه، " ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه "، وقد فسرها بطرس، فقال: " ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب "، فهو نبي واجب السمع والطاعة على كل أحد. ومن لم يسمع له تعرض لعقوبة الله، وهو ما حاق بجميع أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث انتقم الله من كل من كذبه من مشركي العرب والعجم، وقد قال المسيح عنه في نبوءة الكرامين - ويأتي شرحها-: "ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه " (متى 21/44)، فهو الحجر الصلب الذي يفني أعداءه العصاة، والذي بشر بمقدمه النبي دانيال "وفي أيام هؤلاء يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً، ومَلِكها لا يُترك لشعب آخر، وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهي تثبت إلى الأبد، لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخز ف والفضة والذهب" - دانيال 2/21 - 45

وأما المسيح عليه السلام فلم يكن له هذه القوة وتلك المنعة، ولم يتوعد حتى قاتليه، فكيف بأولئك الذين لم يسمعوا كلامه، فقد قال لوقا في سياق قصة الصلب " فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34)، فأين هو من خبر ذاك " الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه

سابعاً : من صفات هذا النبي أنه لا يقتل، بل يعصم الله دمه عن أن يتسلط عليه السفهاء بالقتل، فالنبي الكذاب عاقبته "يموت ذلك النبي"، أي يقتل، فالقتل نوع منه، ولأن كل أحد يموت، وهنا يزعم النصارى بأن المسيح قتل، فلا يمكن أن يكون هو النبي الموعود

وبالرجوع إلى التراجم القديمة للنص نرى أن ثمة تحريفاً وقع في الترجمة ، فقد جاء في طبعة 1844م " فليقتل ذلك النبي "، ولا يخفى سبب هذا التحريف

ثامناً : يتحدث عن الغيوب ويصدق كلامه، وهذا النوع من المعجزات يكثر في القرآن والسنة –مما يطول المقام بذكره-، ويكفي هنا أن أورد نبوءة واحدة مما تنبأ به صلى الله عليه وسلم ، فكان كما أخبر

ففي عام 617 م كادت دولة الفرس أن تزيل الإمبرطورية الرومانية من على خارطة الدنيا، فقد وصلت جيوش كسرى أبرويز الثاني إلى وادي النيل، ودانت له أجزاء عظيمة من مملكة الرومان، ففي سنوات معدودة تمكن جيش الفرس من السيطرة على بلاد الشام وبعض مصر، واحتلت جيوشهم أنطاكيا شمالاً، مما يؤذن بنهاية وشيكة للإمبرطورية الرومانية، وأراد هرقل أن يهرب من القسطنطينية، لولا أن كبير أساقفة الروم أقنعه بالصمود وطلب الصلح الذليل من الفرس

ووسط هذه الأحداث ، وخلافاً لكل التوقعات أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي فيما لا يزيد عن تسع سنين، فقد نزل عليه قوله: غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله (الروم: 2-5)وكان كما تنبأ ، ففي عام 623، 624، 625م استطاع هرقل أن يشن ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الرومان، وفي عام 627م واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس لطلب الصلح مع الرومان، وأعادوا لهم الصليب المقدس الذي كان قد وقع بأيديهم، فمن ذا الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة العظيمة؟ إنه النبي الذي تنبأ عنه موسى عليه السلام

يقول المؤرخ إدوار جِبن: "في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعاً، لأن السنين الاثنتي عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبرطورية الرومانية

روى الترمذي في سننه (3193) عن ابن عباس في قول الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ - سورة الروم آيات من 2 الى 4
قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل الكتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنهم سيغلبون،
فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون العشر
قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر
قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ - سورة الروم آيات من 2 الى 4

وهكذا ظهر لكل ناظر منصف أن النبي الذي تنبأ عنه موسى لم تتحقق أوصافه في المسيح العظيم عليه الصلاة والسلام، وتحققت في أخيه محمد صلى الله عليهما وسلم تسليماً كثيراً ومما يؤكد ذلك أنه كما لم تتوافر هذه الصفات مجتمعة في غيره، فإن اليهود لا يقولون بمجيء هذا المسيح فيما سبق، بل مازالوا ينتظرونه

إذ لما بعث يحيى عليه السلام ظنه اليهود النبي الموعود وأقبلوا عليه يسألونه " النبي أنت؟ فأجابهم: لا " (يوحنا 1/21) أي لست النبي الذي تنتظره اليهود ثم أراد تلاميذ المسيح أن تتحقق النبوءة في المسيح، فذات مرة لما رأوا معجزاته " قالوا: إن هذا بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده " (يوحنا 6/14 - 15)، فقد أراد تلاميذ المسيح تنصيبه ملكاً ليحققوا النبوءة الموجودة لديهم عن النبي المنتظر الذي يملك ويحقق النصر لشعبه، فلما علم المسيح عليه السلام أنه ليس النبي الموعود هرب من بين أيديهم

ويرى النصارى أن ثمة إشكالاً في النص التوراتي (التثنية 18/17-22) يمنع قول المسلمين، فقد جاء في مقدمة سياق النص أن الله لما كلم موسى قال: " يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي.... قد أحسنوا في ما تكلموا: أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك " (التثنية 18/15 - 18) فقد وصفت النبي بأنه "من وسطك" أي من بني إسرائيل، ولذا ينبغي حمل المقطع الثاني من النص على ما جاء في المقطع الأول، فالنبي " من وسطك " أو كما جاء في بعض التراجم "من بينك " أي أنه إسرائيلي

لكن التحقيق يرد هذه الزيادة التي يراها المحققون تحريفاً، بدليل أن موسى لم يذكرها، وهو يعيد خبر النبي على مسامع بني إسرائيل، فقال: " قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك " (التثنية 18/17-18)، ولو كانت من كلام الله لما صح أن يهملها

كما أن هذه الزيادة لم ترد في اقتباس بطرس واستيفانوس للنص كما جاء في أعمال الرسل قال بطرس: "فإن موسى قال للآباء: إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به" (أعمال 3/22)، وقال استفانوس: "هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل: نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون" (أعمال 7/37)، فلم يذكرا تلك الزيادة، ولو كانت أصلية لذكرت في سائر المواضع


نبوءة موسى عن البركة الموعودة في أرض فاران

وقبيل وفاة موسى عليه السلام ساق خبراً مباركاً لقومه بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية: "هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة، فأحب الشعب، جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك" - التثنية 33/1-3

وأكد هذه النبوءة النبي حبقوق، حيث يقول: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، وعند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم .... " - حبقوق 3/3 - 6

وقبل أن نمضى في تحليل النص نتوقف مع الاختلاف الكبير الذي تعرض له هذا النص في الترجمات المختلفة

فقد جاء في الترجمة السبعينية: "واستعلن من جبل فاران، ومعه ربوة من أطهار الملائكة عن يمينه، فوهب لهم وأحبهم، ورحم شعبهم، وباركهم وبارك على أظهاره، وهم يدركون آثار رجليك، ويقبلون من كلماتك. أسلم لنا موسى مثله، وأعطاهم ميراثاً لجماعة يعقوب

وفي ترجمة الآباء اليسوعيين: "وتجلى من جبل فاران، وأتى من ربى القدس، وعن يمينه قبس شريعة لهم

وفي ترجمة 1622م " شرف من جبل فاران، وجاء مع ربوات القدس، من يمينه الشريعة "، ومعنى ربوات القدس أي ألوف القديسين الأطهار، كما في ترجمة 1841م " واستعلن من جبل فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار

واستخدام ربوات بمعنى ألوف أو الجماعات الكثيرة معهود في الكتاب المقدس "ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه" (دانيال7/10)، ومثله قوله: "كان يقول: ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل" (العدد 10/36)، فالربوات القادمين من فاران هم الجماعات الكثيرة من القديسين، الآتين مع قدوسهم الذي تلألأ في فاران

والنص التوراتي يتحدث عن ثلاثة أماكن تقع منها البركة، أولها: جبل سيناء حيث كلم الله موسى. وثانيها: ساعير، وهو جبل يقع في أرض يهوذا (انظر يشوع 15/10)، وثالثها:هو جبل فاران وتنبئ المواضع التي ورد فيها ذكر " فاران " في الكتاب المقدس أنها تقع في صحراء فلسطين في جنوبها لكن تذكر التوراة أيضاً أن إسماعيل قد نشأ في برية فاران (التكوين 21/21)، ومن المعلوم تاريخياً أنه نشأ في مكة المكرمة في الحجاز

ويرى اليهود والنصارى في هذا النص أنه يتحدث عن أمر قد مضى يخص بني إسرائيل، وأنه يتحدث عن إضاءة مجد الله وامتداده لمسافات بعيدة شملت فاران وسعير وسيناء

ويرى المسلمون أن النص نبوءة عن ظهور عيسى عليه السلام في سعير في فلسطين، ثم محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، حيث يأتي ومعه الآلاف من الأطهار مؤيدين بالشريعة من الله عز وجل

وذلك متحقق في رسول الله لأمور:- أولاً : أن جبل فاران هو جبل مكة، حيث سكن إسماعيل، تقول التوراة عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر.وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر " - التكوين 21/20-21

وقد انتشر أبناؤه في هذه المنطقة، فتقول التوراة " هؤلاء هم بنو إسماعيل..... وسكنوا من حويلة إلى شور " التكوين 25/16 - 18، و حويلة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس منطقة في أرض اليمن، بينما شور في جنوب فلسطين. وعليه فإن إسماعيل وأبناؤه سكنوا هذه البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله، وهو يشمل أرض فاران التي سكنها إسماعيل

ثانياً : أن وجود منطقة اسمها فاران في جنوب فلسطين لا يمنع من وجود فاران أخرى هي تلك التي سكنها إسماعيل، وقامت الأدلة التاريخية على أنها الحجاز، حيث بنى إسماعيل وأبوه الكعبة، وحيث تفجر زمزم تحت قدميه، وهو ما اعترف به عدد من المؤرخين منهم المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس فقالا بأن فاران هي مكة

ثالثاً : لا يقبل قول القائل بأن النص يحكي عن أمر ماضٍ، إذ التعبير عن الأمور المستقبلة بصيغة الماضي معهود في لغة الكتاب المقدس يقول اسبينوزا: " أقدم الكتاب استعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر، وعلى الماضي بلا تمييز كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل... فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات

رابعاُ : ونقول: لم خص جبل فاران بالذكر دون سائر الجبال لو كان الأمر مجرد إشارة إلى انتشار مجد الله

خامساً : ومما يؤكد أن الأمر متعلق بنبوءة الحديث عن آلاف القديسين، والذين تسميهم بعض التراجم " أطهار الملائكة " أي أطهار الأتباع، إذ يطلق هذا اللفظ ويراد به: الأتباع، كما جاء في سفر الرؤيا أن " ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنينُ وملائكتُه …." - الرؤيا 12/7 فمتى شهدت فاران مثل هذه الألوف من الأطهار؟ فما ذلك إلا محمد وأصحابه

سادساُ : وما جاء في سفر حبقوق يؤيد قول المسلمين حيث يقول: " الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع، وهناك استتار قدرته، قدامه ذهب الوبأ، و عند رجليه خرجت الحمى، وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم، .... " - حبقوق 3/3 - 6 فالنص شاهد على أنه ثمة نبوة قاهرة تلمع كالنور، ويملأ الآفاق دوي أذان هذا النبي بالتسبيح

وتيمان كما يذكر محررو الكتاب المقدس هي كلمة عبرية معناها:" الجنوب " ومن هذا كله فالقدوس المتلألئ في جبال فاران هو نبي الإسلام، فكل الصفات المذكورة لنبي فاران متحققة فيه، ولا تتحقق في سواه من الأنبياء الكرام


المزامير تبشر بصفات نبي آخر الزمان

وها هي المزامير تبشر بالنبي الخاتم، ويصفه أحد مزاميرها فيقول مخاطباً إياه باسم الملك: " فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر: أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد

تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نُبُلُك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم

من أجل ذلك مسحك إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك.... بنات ملوك بين حظياتك، جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير

اسمعي يا بنت وانظري، وأميلي أذنك، انسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له... عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض، أذكر اسمك في كل دور فدور. من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد " - المزمور 45/1 - 17

ويسلم النصارى بأن النص كان نبوءة بالنبي الآتي، ويزعمونه عيسى عليه السلام، فيما يرى المسلمون أن الصفات التي رمزت في النص إنما تعود إليه صلى الله عليه وسلم، وتمنع أن يكون المعني عيسى أو غيره من الأنبياء الكرام

ففي النص تسع أوصاف لهذا النبي، وهي
أولاً : كونه صاحب حسن لا يعدل في البشر " بهي في الحسن أفضل من بني البشر " ولا يجوز للنصارى القول بأنه المسيح وهم الذين يقولون: تحققت في المسيح نبوة إشعيا، وفيها أن المتنبئ به "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه " (إشعيا 52/2)، وهذا المعنى الذي لا نوافقهم عليه (1) أكده علماؤهم، فقال كليمندوس الإسكندراني: " إن جماله كان في روحه وفي أعماله، وأما منظره فكان حقيراً " وقال ترتليان: " أما شكله فكان عديم الحسن الجسماني، وبالحري كان بعيداً عن أي مجد جسدي " ومثله قال مارتير وأوريجانوس وغيرهما فمن كان هذا قوله بالمسيح لا يحق له أن يقول بأنه أيضاً:" أبرع جمالاً من بني البشر

وقد جاءت الآثار تتحدث عن حسن نبينا وفيض جماله بعد أن كساه الله بلباس النبوة، فلم ير أجمل منه. ففي صحيح البخاري (3549) يقول البراء بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنه خَلْقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير

ثانياً : أن النبوة وكلامها يخرج من شفتيه "انسكبت النعمة على شفتيك"، فقد كان أمياً، ووحيه غير مكتوب، فيما كانت لإبراهيم وموسى صحفاً، كما كان عيسى قارئاً - انظر لوقا 4/16

وقد جاءت نصوص كتابية عدة تؤكد أمية النبي القادم منها ما سبق في سفر التثنية " أجعل كلامي في فمه " - التثنية 18/18 وما جاء في إشعيا " أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف القراءة، فيقال له:اقرأ، فيقول: لا أعرف الكتابة " - إشعيا 29/12 وفي غير الترجمة العربية المتداولة " لا أعرف القراءة " وهي تماثل – كما سبق - قول النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء: ما أنا بقارئ

ثالثاً : كونه مبارك إلى الأبد، صاحب رسالة خالدة " باركك الله إلى الأبد.... كرسيك يا الله إلى دهر الدهور

رابعاً : كونه صاحب سيف يقهر به أعداءه لإقامة الحق والعدل " تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار... بجلالك اقتحم. من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف. نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون " والمسيح عليه السلام لم يحمل سيفاً ولا أسقط أعداءه، ولا صوب نبله في قلوب أعدائه لنشر دعوة الحق، كما لم يكن ملكاً في قومه

خامساً : وهذا النبي محب للخير، مبغض للإثم كحال جميع الأنبياء، لكن الله فضله عليهم " مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك

سادساً : يؤتى لهذا النبي بالهدايا لعزه، وبنات الملوك يكن في خدمته أو في نسائه " بنات ملوك بين حظياتك.. بنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية..." وقد تزوج النبي بصفية بنت حيي بن أخطب سيد قومه، كما أهديت إليه مارية القبطية، وكانت شهربانو بنت يزدجر ملك فارس تحت ابنه الحسين

سابعاً : تدين له الأمم بالخضوع وتدخل الأمم في دينه بفرح وابتهاج " بملابس مطرزة وتحضر إلى الملك، في إثرها عذارى صاحباتها، مقدمات إليك، يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك

ثامناً : يستبدل قومه بالعز بعد الذل " عوضاً عن آبائك يكون بنوك، تقيمهم رؤساء في كل الأرض

تاسعاً : يكتب له الذكر الحميد سائر الدهر " أذكر اسمك دور فدور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد " فهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم

لا يبعث الله نبياً إلا غاية في الحسن، فذلك أدعى لتصديقهم وعدم عيبهم بخلقهم، وقد وصف رسول الله عيسى عليه السلام خصوصاً بأنه كان غاية في الحسن، فقد رآه في رؤيا عند الكعبة " فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما أنت راء من آدم الرجال، له لـمّة كأحسن ما أنت راء من اللمم، قد رجلها، فهي تقطر ماءً …فسألت:من هذا؟ فقيل: هذا هو المسيح بن مريم " (رواه مسلم ح 169) (1)

داود يبشر بنبي من غير ذريته

ويتحدث داود عن النبي القادم فيقول: " قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة.. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها..." - المزمور 110/1-6

ويرى النصارى في النص نبوءة بالمسيح القادم من اليهود الذي يرون واليهود أنه سيكون من ذرية داود

وقد أبطل المسيح لليهود قولهم، وأفهمهم أن القادم لن يكون من ذرية داود، ففي متى " كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟
قالو له: ابن داود
قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة " - متى 22/41 - 46

وفي مرقس " فداود نفسه يدعوه رباً فمن أين هو ابنه "-مرقس12/37
وانظر لوقا20/41– 44وتسمية عيسى عليه السلام للنبي بالمسيح سبق التنبيه عليها

فلقب "المسيح المنتظر" يتعلق بمسيح يملك ويسحق أعداءه، وهو ما رأينا إنكار المسيح عليه السلام له في مواطن عديدة، منها أنه قال لبيلاطس: " مملكتي ليست في هذا العالم " - يوحنا 18/36 أي أنها مملكة روحية، وهي غير المملكة التي يبشر بها داود في مزاميره، حيث قال: "أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبَك... يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها...." وهو الذي قال عنه يعقوب: " له خضوع شعوب " - التكوين 49/10

وينقل القس الدكتور فهيم عزيز عميد كلية اللاهوت للبروتستانت في مصر عن علماء الغرب إنكارهم " أن يسوع كان يتصرف ويتكلم كمسيح لليهود أو المسيا الذي كان ينتظره العهد القديم

وقد تنبأ وبشر سليمان أيضاً في المزامير بالنبي الملك، صلى الله عليه وسلم، فقال: " ويملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرية، وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة، ملوك شبا وسبإ يقدمون هدية، ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له، لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس ويخلص أنفس الفقراء، من الظلم والخطف يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا، ويصلّي لأجله دائماً، اليوم كله يباركه، تكون حفنة بر في الأرض في رؤوس الجبال، تتمايل مثل لبنان ثمرتها ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض، يكون اسمه إلى الدهر، قدام الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به، كل أمم الأرض يطوّبونه، مبارك الرب الله إله إسرائيل الصانع العجائب وحده، ومبارك اسم مجده إلى الدهر ولتمتلئ الأرض كلها من مجده، آمين ثم آمين " - المزمور 72/8-19

فمن هو الذي سجدت وأذعنت وذلت له الملوك، ومجده الله في كل الدهور؟ لا ريب أنه محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دانت لسلطانه أعظم ممالك عصره ، الروم والفرس


المسيح يبشر بالبارقليط

لكن أعظم بشارات العهد الجديد بالنبي الخاتم هي نبوءات المسيح عن البارقليط

وينفرد يوحنا في إنجيله بذكر هذه البشارات المتوالية من المسيح بهذا النبي المنتظر، حيث يقول المسيح موصياً تلاميذه: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم... إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منـزلاً

الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم …قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء "-يوحنا 14/15–30

وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول: " متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي في الابتداء قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا، سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله.... قد ملأ الحزن قلوبكم، لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم

ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" - يوحنا 15/26 - 16/14

وفي هذه النصوص يتحدث المسيح عن صفات الآتي بعده فمن هو هذا الآتي؟

البارقليط عند النصارى
يجيب النصارى بأن الآتي هو روح القدس الذي نزل على التلاميذ يوم الخمسين ليعزيهم في فقدهم للسيد المسيح، وهناك " صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا " - أعمال 2/1 - 4

ولا تذكر أسفار العهد الجديد شيئاً - سوى ما سبق - عن هذا الذي حصل يوم الخمسين من قيامة المسيح. يقول الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا: " البارقليط هو روح الله القدوس نفسه المعزي، البارقليط: المعزي " الروح القدس الذي يرسله الأب باسمي " - يوحنا 14/26، وهو الذي نزل عليهم يوم الخمسين - أعمال 2/1 - 4 فامتلأوا به وخرجوا للتبشير، وهو مع الكنيسة وفي المؤمنين، وهو هبة ملازمة للإيمان والعماد

البارقليط عند المسلمين
ويعتقد المسلمون أن ما جاء في يوحنا عن المعزي، إنما هو بشارة المسيح بنبينا صلى الله عليه وسلم وذلك يظهر من أمور
منها لفظة " المعزي " لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة (1820م، 1831م، 1844م) تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية

وفي تفسير كلمة " بارقليط " اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين
الأول أنه "باراكلي توس". فيكون بمعنى: المعزي والمعين والوكيل
والثاني أنه " بيروكلوتوس "، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد

ويقول أسقف بني سويف الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا " إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير "بيركليت"، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد

ويسأل عبد الوهاب النجار الدكتور كارلو نيلنو – الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود اليونانية القديمة- عن معنى كلمة " بيركلوتس " فيقول: " الذي له حمد كثير

ومما يؤكد خطأ الترجمة أن اللفظة اليونانية (بيركلوتس ) اسم لا صفة، فقد كان من عادة اليونان زيادة السين في آخر الأسماء، وهو ما لا يصنعونه في الصفات

ويرى عبد الأحد داود أن تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه " شخص يدعى للمساعدة أو شفيع أو محام أو وسيط " غير صحيح، فإن كلمة بارقليط اليونانية لا تفيد أياً من هذه المعاني، فالمعزي في اليونانية يدعى (باركالوف أو باريجوريس)، والمحامي تعريب للفظة (سانجرس)، وأما الوسيط أو الشفيع فتستعمل له لفظة " ميديتيا "، وعليه فعزوف الكنيسة عن معنى الحمد إلى أي من هذه المعاني إنما هو نوع من التحريف. يقول الدكتور سميسون كما في كتاب "الروح القدس أو قوة في الأعالي": "الاسم المعزي ليس ترجمة دقيقة جداً"

ومما سبق يتضح أن ثمة خلافاً بين المسلمين والنصارى في الأصل اليوناني لكلمة " بارقليط " حيث يعتقد المسلمون أن أصلها " بيركلوتوس " وأن ثمة تحريفاً قام به النصارى لإخفاء دلالة الكلمة على اسم النبي أحمد: الذي له حمد كثير

ومثل هذا التحريف لا يستغرب وقوعه في كتب القوم، ففيها من الطوام مما يجعل تحريف كلمة " البيرقليط " من السهل الهين

كما أن وقوع التصحيف والتغير في الأسماء كثير عند الترجمة بين اللغات وفي الطبعات، فاسم "بارباس" في الترجمة البروتستانتية هو في نسخة الكاثوليك "بارابا" وكذا (المسيا، ماشيح) و(شيلون، شيلوه) وسوى ذلك، وكلمة "البارقليط" مترجمة عن السريانية لغة المسيح الأصلية فلا يبعد أن يقع مثل هذا التحوير حين الترجمة

ولجلاء التحريف في هذه الفقرة فإن أدوين جونس في كتابه " نشأة الديانة المسيحية " يعترف بأن معنى البارقليط: محمد، لكنه يطمس اعترافه بكذبة لا تنطلي على أهل العلم والتحقيق، فيقول بأن المسيحيين أدخلوا هذا الاسم في إنجيل يوحنا جهلاً منهم بعد ظهور الإسلام وتأثرهم بالثقافة الدينية للمسلمين

البارقليط بشر نبي، وليس روح القدس
وأياً كان المعنى للبارقليط: أحمد أو المعزي فإن الأوصاف والمقدمات التي ذكرها المسيح للبارقليط تمنع أن يكون المقصود به روح القدس، وتؤكد أنه كائن بشري يعطيه الله النبوة. وذلك واضح من خلال التأمل في نصوص يوحنا عن البارقليط

فإن يوحنا استعمل في حديثه عن البارقليط أفعالاً حسية (الكلام، والسمع، والتوبيخ) في قوله: " كل ما يسمع يتكلم به " وهذه الصفات لا تنطبق على الألسنة النارية التي هبت على التلاميذ يوم الخمسين، إذ لم ينقل أن الألسنة تكلمت يومذاك بشيء، والروح غاية ما يصنعه الإلهام القلبي، وأما الكلام فهو صفة بشرية، لا روحية

وقد فهم أوائل النصارى قول يوحنا بأنه بشارة بكائن بشري، وادعى مونتنوس في القرن الثاني (187م) أنه البارقليط القادم، ومثله صنع ماني في القرن الرابع فادعى أنه البارقليط، وتشبه بالمسيح فاختار اثنا عشر تلميذاً وسبعون أسقفاً أرسلهم إلى بلاد المشرق، ولو كان فهمهم للبارقليط أنه الأقنوم الثالث لما تجرؤوا على هذه الدعوى


ومن صفات الآتي أنه يجيء بعد ذهاب المسيح من الدنيا، فالمسيح وذلك الرسول المعزي لا يجتمعان في الدنيا، وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن المعزى لا يمكن أن يكون الروح القدس الذي أيد المسيح طيلة حياته، بينما المعزي لا يأتي الدنيا والمسيح فيها " إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي

وروح القدس سابق في الوجود على المسيح، وموجود في التلاميذ من قبل ذهاب المسيح، فقد كان شاهداً عند خلق السماوات والأرض (انظر التكوين 1/2) كما كان له دور في ولادة عيسى حيث أن أمه " وجدت حبلى من الروح القدس " - متى 1/18

كما اجتمعا سوياً يوم تعميد المسيح، حين "نـزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لوقا 3/22) فالروح القدس موجود مع المسيح وقبله، وأما المعزي " إن لم أنطلق لا يأتيكم " فهو ليس الروح القدس


ومما يدل على بشرية الروح القدس أنه من نفس نوع المسيح، والمسيح كان بشراً، وهو يقول عنه: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر"، وهنا يستخدم النص اليوناني كلمة allon وهي تستخدم للدلالة على الآخر من نفس النوع، فيما تستخدم كلمة hetenos للدلالة على آخر من نوع مغاير. وإذا قلنا إن المقصود من ذلك رسول آخر أصبح كلامنا معقولاً، ونفتقد هذه المعقولية إذا قلنا: إن المقصود هو روح القدس الآخر، لأن روح القدس واحد وغير متعدد

ثم إن الآتي عرضة للتكذيب من قبل اليهود والتلاميذ، لذا فإن المسيح يكثر من الوصية بالإيمان به وأتباعه، فيقول لهم: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي "، ويقول: " قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنوا " ويؤكد على صدقه فيقول: " لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به

فكل هذه الوصاة لا معنى لها إن كان الآتي هو الروح القدس، حيث نزل على شكل ألسنة نارية، فكان أثرها في نفوسهم معرفتهم للغات مختلفة، فمثل هذا لا يحتاج إلى وصية للإيمان به والتأكيد على صدقه


كما أن الروح القدس أحد أطراف الثالوث، وينبغي وفق عقيدة النصارى أن يكون التلاميذ مؤمنين به، فلم أوصاهم بالإيمان به؟

وروح القدس وفق كلام النصارى إله مساو للآب في ألوهيته، وعليه فهو يقدر أن يتكلم من عند نفسه، وروح الحق الآتي " لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به

ودل نص يوحنا على تأخر زمن إتيان البارقليط، فقد قال المسيح لهم: " إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق "، فثمة أمور يخبر بها هذا النبي لا يستطيع التلاميذ إدراكها، لأن البشرية لم تصل لحالة الرشد في فهم هذا الدين الكامل الذي يشمل مناحي الحياة المختلفة، ومن غير المعقول أن تكون إدراكات التلاميذ قد اختلفت خلال عشرة أيام من صعود المسيح إلى السماء، وليس في النصوص ما يدل على مثل هذا التغيير

بل إن النصارى ينقلون عنهم أنهم بعد نزول الروح عليهم قد أسقطوا كثيراً من أحكام الشريعة وأحلوا المحرمات، فسقوط الأحكام عندهم أهون من زيادةٍ ما كان يحتملونها ويطيقونها زمن المسيح. فالبارقليط يأتي بشريعة ذات أحكام تثقل على المكلفين الضعفاء، كما قال الله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً - سورة المزمل آية 5


كما أن المسيح أخبر أنه قبل أن يأتي البارقليط " سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله"، وهذا الأمر إنما حصل بعد الخمسين، واستمر الاضطهاد بأتباع المسيح حتى ندر الموحدون قبيل ظهور الإسلام

وذكر يوحنا أن المسيح خبّر تلاميذه بأوصاف البارقليط، والتي لم تتمثل بالروح القدس الحال على التلاميذ يوم الخمسين، فهو شاهد تنضاف شهادته إلى شهادة التلاميذ في المسيح " فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً " فأين شهد الروح القدس للمسيح؟ وبم شهد؟

بينا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد للمسيح بالبراءة من الكفر وادعاء الألوهية والبنوة لله، كما شهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود الله وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً - سورة النساء آية 156


وأخبر المسيح عن تمجيد الآتي له، فقال: "ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" ولم يمجد المسـيح أحد ظـهر بعده كما مجده نبي الإسلام ، فقد أثنى عليه وبين فضله على سائر العالمين

هذا ولم ينقل لنا أي من أسفار العهد الجديد أن روح القدس أثنى على المسيح أو مجده يوم الخمسين، حين نزل على شكل ألسنة نارية


وأخبر المسيح أن البارقليط يمكث إلى الأبد، أي دينه وشريعته، بينا نجد أن ما أعطيه التلاميذ من قدرات يوم الخمسين - إن صح - اختفت بوفاتهم، ولم ينقل مثله عن رجالات الكنيسة بعدهم وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فيمكث إلى الأبد بهديه ورسالته، وإذ لا نبي بعده ولا رسالة

كما أن البارقليط " يذكركم بكل ما قلته لكم " وليس من حاجة بعد رفعه بعشرة أيام إلى مثل هذا التذكير، ولم ينقل العهد الجديد أن روح القدس ذكرهم بشيء، بل إنا نجد كتاباتهم ورسائلهم فيها ما يدل على تقادم الزمن ونسيان الكاتب لبعض التفاصيل التي يذكرها غيره، بينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما غفلت عنه البشرية من أوامر الله التي أنزلها على أنبيائه ومنهم المسيح عليه السلام

والبارقليط له مهمات لم يقم بها الروح القدس يوم الخمسين فهو " متى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة " ولم يوبخ الروح القدس أحداً يوم الخمسين، بل هذا هو صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البشرية الكافرة

ويرى عبد الأحد داود أن التوبيخ على البر قد فسره المسيح بقوله بعده: " وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني " ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وقد أخبرهم أنه سيطلبونه ولن يجدوه، لأنه سيصعد إلى السماء، " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن....." - يوحنا 13/32 كما سيوبخ النبي الآتي الشيطان ويدينه بما يبثه من هدي ووحي "وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين

وصفة التوبيخ لا تناسب من سمي بالمعزي، وقيل بأنه جاء إلى التلاميذ يعزيهم بفقد سيدهم ونبيهم. فالعزاء إنما يكون في المصائب، والمسيح كان يبشرهم بذهابه ومجيء الآتي بعد

ثم إن العزاء إنما يكون حين المصيبة وبعدها بقليل، وليس بعد عشرة أيام (موعد نزول الروح القدس على التلاميذ) ثم لماذا لم يقدم المعزي القادم العزاء لأم المسيح، فقد كانت أولى به

ثم لا يجوز للنصارى أن يعتبروا قتل المسيح على الصليب مصيبة، إذ هو برأيهم سبب الخلاص والسعادة الأبدية للبشرية، فوقوعه فرحة ما بعدها فرحة، وإصرار النصارى على أن التلاميذ احتاجوا لعزاء الروح القدس يبطل عقيدة الفداء والخلاص

ومن استعراض ما سبق ثبت بأن روح القدس ليس هو البارقليط، فكل صفات البارقليط صفات لنبي يأتي بعد عيسى، وهو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، فالبارقليط " لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به " وكذا الذي بشر به موسى " أجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به "، وهو وصف النبي صلى الله عليه و سلم كما قال الله :وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى سورة النجم آيات من 3 إلى 5

بل كل ما ذكر عن البارقليط له شواهد في القرآن والسنة تقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذه النبوءة، إذ هو الشاهد للمسيح، وهو المخبر بالغيوب، الذي لا نبي بعده، وقد ارتضى الله دينه إلى قيام الساعة ديناً

اعتراضات القس فندر وردود العلامة الهندي عليها
ويثير القس فندر في وجه المسلمين أسئلة يراها تمنع من صرف البارقليط إلى النبي محمد صلى الله عليه و سلم
أولها: أنه ورد في البارقليط أنه روح الحق ثلاث مرات، وفي مرة رابعة ورد أنه روح القدس(1) وهي كما يقول القس فندر ألفاظ مترادفة تدل على الروح القدس

والعلامة رحمة الله الهندي في كتابه العظيم "إظهار الحق" يسلم بترادف هذه الألفاظ ، ويؤكد أن لفظة روح الله دالة على الأنبياء أيضاً، كما جاء في رسالة يوحنا الأولى: "فلا تؤمنوا أيها الأحباء بكل روح من الأرواح، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا ؟ لأن كثيرين من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم "-يوحنا(1) 4/1-2، فالأنبياء الصادقون هم روح الله، والأنبياء الكذبة هم روح الشيطان

وبين يوحنا كيفية معرفة روح الحق من روح الضلال، فقال: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم" يوحنا (1) 4/2 - 6

ورسولنا هو روح الحق بدليل قول يوحنا، لأنه يعترف بالمسيح أنه رسول من عند الله، وأنه جسد، وأنه من الله كما سائر الناس هم من الله أي الله خلقهم. وبولس هو روح الضلال الذي يعتبر المسيح إلهاً، وهو الموجود في العالم حينذاك

ثانيها: أن الخطاب في إنجيل يوحنا توجه للحواريين كما في قوله "يعلمكم" و "أرسله إليكم"..وعليه فينبغي أن يوجد البارقليط في زمنهم ويمنع رحمة الله الهندي هذا الفهم، بل المراد: النصارى بعدهم وأقامهم المسيح مقام التلاميذ، وهو أمر معهود في أسفار العهد الجديد، فقد جاء في متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع "أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب
السماء-متى 26/64 وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء
ومثله قول المسيح: "وقال له: الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" - يوحنا 1/51

ثالثها: أن البارقليط لا يراه العالم ولا يعرفه، فقد جاء "لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم" بينما محمد صلى الله عليه و سلم قد عرفه الناس ورأوه

ويرد العلامة رحمة الله الهندي بأن هذا ليس بشيء، لأن روح القدس عندهم هو الله أو روح الله، والعالم يعرف ربه أكثر من معرفته بمحمد، فهي لا تصدق على تأويلهم بحال

ويرى رحمة الله الهندي أن المقصود بالنص هو أن العالم لا يعرفون هذا النبي المعرفة الحقيقية (أي نبوته) أما أنتم واليهود فتعرفونه، لإخبار المسيح والأنبياء لكم عنه

وأما سائر الناس فهم كما قال المسيح: " لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون " - متى 13/13

وليس المقصود بقوله: " لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم" الرؤية البصرية والمعرفة الحسية، بل المعرفة الإيمانية. ومثله ما جاء في يوحنا "أجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا، ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يوحنا 8/19) ومثله في الأناجيل كثير. يقول متى هنري في تفسيره لإنجيل يوحنا: إن كلمة يرى في النص اليوناني لا تفيد رؤية العين، بل رؤية البصيرة

ولربما كان عدم معرفتهم بالمنتظر القادم أنه غريب وليس من اليهود " وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" - يوحنا 7/27

رابعها: جاء في وصف البارقليط أنه " مقيم عندكم وثابت فيكم"، فدل على وجوده مع الحواريين، ولا يصدق هذا على محمد صلى الله عليه وسلم ويرى رحمة الله الهندي أن النص في تراجم وطبعات أخرى: " مستقر معكم وسيكون فيكم"، وفي غيرها: " ماكث معكم ويكون فيكم

والمعنى في ذلك كله الاستقبال وليس الآنية، بمعنى أنه سيقيم عندكم أو يمكث عندكم. ذلك أن النص دل على ذلك، فهو يقول بعدم وجوده بينهم ذلك الوقت " قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى متى إذا كان تؤمنوا "، و " إن لم أنطلق لم يأتكم البارقليط ". وهو ما يقوله النصارى حين يؤمنون أن مجيئه وحلوله كان في يوم الخمسين

ومثله أخبر حزقيال عن خروج يأجوج ومأجوج بصيغة الحاضر، وهم لم يخرجوا بعد فقال: "ها هو قد جاء وصار، يقول الرب: هذا هو اليوم الذي قلت عنه "-حزقيال 39/8 ومثله في يوحنا 5/25

خامسها: جاء في كتاب الأعمال: " وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمد الماء، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير ". - أعمال 1/4 - 5، ويرى فندر أن هذا " يدل على أن بارقليط هو الروح النازل يوم الدار، لأن المراد بموعد الآب هو بارقليط

وفي رده يبين رحمة الله الهندي أن ما جاء في الأعمال وعد آخر لا علاقة له بالبارقليط الذي تحدث عنه يوحنا فحسب، فقد وعدوا بمجيء الروح القدس في وعد آخر، وتحقق الموعود بما ذكر لوقا في الأعمال أما ما ذكره يوحنا عن مجيء البارقليط فلا صلة له بهذه المسألة

وبذلك فإننا نرى في البارقليط النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ - سورة الصف آية 6


يذكر موريس بوكاي ومحمد عبد الحليم أبو السعد أن النص في المخطوطة السينائية ليس فيه ذكر الروح القدس. التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، موريس بوكاي، ص 132، دراسة نقدية تحليلية لإنجيل مرقس، محمد عبد الحليم أبو السعد، ص 192 (1)